الغيبة في القرآن

لقد أكد الدين الإسلامي - باعتباره ديناً إنسانياً يهدف على أن يعيش الإنسان في أمن وسلام – على التعايش السلمي بين أطياف الناس المختلفة والمؤتلفة، لما فيه من قيمة حضارية ثقافية تسعى لبلوغها المجتمعات والشعوب، وذكرت الآيات القرآنية الكريمة مقومات هذا التعايش السلمي بتركيز بعض المعاني والسلوك في المجتمع، تلك التي لها دلالات عميقة نافعة كالمساواة، والتّعاون، والإصلاح، والتّسامح، والرّحمة، والعدل.

وأشهر سلوك سيء ينخر في جسد التعايش السلمي ويهدّد السلم المجتمعي هو الغيبة وذكر الآخرين بما يكرهون من العيوب وغيرها، وقد صور القرآن الكريم حجم مضار هذا السلوك على الفرد والمجتمع أبلغ تصوير لردع الناس وكفّهم عن ارتكابه في حق نظرائهم من النوع الإنساني، لاحظ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ).[1]

ففي هذه الآية الكريمة جاء النهي القرآني عن كف اللسان عن الغيبة بعبارة صريحة (وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا)، وبأسلوب جمع بين التوكيد والتوضيح ذكر تمثيلاً للمشهد السيء الذي يظهر به هذا الذي يرتكب هذا السلوك، ويرسم في نفوس الناس المنظر الكريه البشع الذي عادة ما يلازم الجرائم الكبيرة بحق الإنسان، وهو أكل الإنسان لحم أخيه الإنسان بعد موته، وفيه معاني الخسة والوضاعة التي تصل بالمرء لهذا الحد، كما أن ذلك فيه معنى الجبن بحيث أن البعض من جبنه لا يستطيع مواجهة الآخر بالكلام السيء فيغويه الشيطان للكلام في غيابه، والمعروف حتى عند الغير المسلمين أن أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذره الآدميون بطبعهم الآدمي، بل حتى الكفار وأعداء الدين يشتركون في هذه هذا الاستقذار لهذا الفعل الشنيع.

إن استعمال القرآن الكريم للأمثال وتصوير الأعمال الحسنة والسيئة لتذكير الناس وأخذ العبرة وهي تربيةً قرآنية عاليةً لكل إنسان، وآداب يؤدب الله بها أهل الإيمان، فهذا مثل ضربه الله للغيبة، وأهلها أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ؟

من الذي يحب أن يأكل لحم أخيه؟ بل أن يأكل لحم أخيه ميتاً؛ لأن ذكر لحم الأخ لا شك أنه منفر غاية التنفير عن مثل هذه المقارفة؛ لأنه أمر ينفر منه الطبع، والفطرة، فضلاً عن مقتضى العقل، فضلاً عما دل عليه النقل.

وفي روايات أهل البيت (عليهم السلام) ذكر النهي عن هذه المعصية بشكل مغلظ أيضاً الصدوق في كتابه (عقاب الأعمال) عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) ـ في حديث المناهي ـ (أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نهى عن الغيبة والاستماع إليها، ونهى عن النميمة والاستماع إليها، وقال: لا يدخل الجنة قتات، ـ يعني: نماما ـ، ونهى عن المحادثة التي تدعو إلى غير الله، ونهى عن الغيبة، وقال: من اغتاب امرءاً مسلما بطل صومه، ونقض وضوءه، وجاء يوم القيامة يفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة يتأذى به أهل الموقف، وإن مات قبل أن يتوب مات مستحلا لما حرم الله عزّ وجلّ، ألا ومن تطوّل على أخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردها عنه رد الله عنه ألف باب من الشر في الدنيا والآخرة، فإن هو لم يردها وهو قادر على ردها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرة).[2]

كيف تتحقق الغيبة؟

ذكر العلماء في كتبهم الفقهية والأخلاقية عبارات كثيرة في توضيح الغيبة (وهي أن يذكر بعيب في غيبته ممّا يكون مستوراً عن الناس، سواء أكان بقصد الانتقاص منه أم لا، وسواء أكان العيب في بدنه أم في نسبه أم في خلقه أم في فعله أم في قوله أم في دينه أم في دنياه أم في غير ذلك ممّا يكون عيباً مستوراً عن الناس، كما لا فرق في الذكر بين أن يكون بالقول أم بالفعل الحاكي عن وجود العيب، وتختصّ الغيبة بصورة وجود سامع يقصد إفهامه وإعلامه أو ما هو في حكم ذلك، كما لا بُدَّ فيها من تعيين المغتاب فلو قال: (واحد من أهل البلد جَبان) لا يكون غيبة، وكذا لو قال: (أحد أولاد زيد جَبان)، نعم قد يحرم ذلك من جهة لزوم الإهانة والانتقاص لا من جهة الغيبة.

ويجب عند وقوع الغيبة التوبة والندم، والأحوط استحباباً الاستحلال من الشخص المغتاب - إذا لم‏ تترتّب على ذلك مفسدة - أو الاستغفار له، بل لو عُدَّ الاستحلال تداركاً لما صدر منه من هتك حرمة المغتاب فالأحوط لزوماً القيام به مع عدم المفسدة.

وتجوز الغيبة في موارد:

منها: المتجاهر بالفسق فيجوز اغتيابه في غير العيب المستتر به.

ومنها: الظالم لغيره فيجوز للمظلوم غيبته والأحوط وجوباً الاقتصار على ما لو كانت الغيبة بقصد الانتصار لا مطلقاً.

ومنها: نصح المؤمن فتجوز الغيبة بقصد النصح كما لو استشاره شخص في تزويج امرأة فيجوز نصحه وإن استلزم إظهار عيبها، بل يجوز ذلك ابتداءً بدون استشارة إذا علم بترتّب مفسدة عظيمة على ترك النصيحة.

ومنها: ما لو قصد بالغيبة ردع المغتاب عن المنكر فيما إذا لم يمكن الردع بغيرها.

ومنها: ما لو خيف على الدين من الشخص المغتاب فتجوز غيبته لئلّا يترتّب الضرر الدينيّ.

ومنها: جرح الشهود.

ومنها: ما لو خيف على المغتاب أن يقع في الضرر اللازم حفظه عن الوقوع فيه فتجوز غيبته لدفع ذلك عنه.

ومنها: القدح في المقالات الباطلة وإن أدّى ذلك إلى نقص في قائلها.

ويجب النهي عن الغيبة بمناط وجوب النهي عن المنكر مع توفّر شروطه، والأحوط الأولى لسامعها أن ينصر المغتاب ويردّ عنه ما لم‏ يستلزم محذوراً).[3]

 


[1] الحجرات: 12.

[2] عقاب الأعمال: ج2، ص 287.

[3] منهاج الصالحين: ج2، ص30 – 31.