معنى البداء:
البداء بالفتح والمد في اللغة: ظهور الشيء بعد الخفاء وحصول العلم به بعد الجهل قال سبحانه: (وَبَدَا لَهُمْ مِنْ الله مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)[1]، واتفقت الأمة على ان البداء بهذا المعنى لا يطلق على الله تعالى سبحانه بتاتا، لاستلزامه حدوث علمه بعد جهله بالشيء، تعالى الله عما يقول الظالمون، وهذا هو الذي ينسبه بعض المتكلمين إلى الشيعة، وهم براء من تلك النسبة.
والمراد بالبداء عندنا هو أن تقديره سبحانه للحوادث على قسمين:
أ- تقدير قطعي وقضاء مبرم.
ب- تقدير معلق وقضاء غير منجز.
فأما القسم الأول: فلا يتسرب إليه البداء لافتراض كونه تقديرا حتميا وقضاء مبرما، وإنما يتسرب البداء إلى القسم الثاني وهو القضاء المعلق فهو يتغير إما بالأعمال الصالحة أو الطالحة قال سبحانه: (إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[2].
وقال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[3]، فالبداء بهذا المعنى مما اتفق عليه المسلمون قاطبة كما اتفقوا على عدم صحة البداء بالمعنى الأول.
البداء في روايات أهل البيت (عليهم السلام):
1- عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَحَدِهِمَا (عليه السلام) قَالَ: (مَا عُبِدَ الله بِشَيْءٍ مِثْلِ الْبَدَاءِ)، وفِي رِوَايَةِ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): (مَا عُظِّمَ الله بِمِثْلِ الْبَدَاءِ)[4].
2- عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وحَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ وغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) قَالَ فِي هَذِه الآيَةِ: ((يَمْحُوا الله ما يَشاءُ ويُثْبِتُ) قَالَ فَقَالَ: وهَلْ يُمْحَى إِلَّا مَا كَانَ ثَابِتاً وهَلْ يُثْبَتُ إِلَّا مَا لَمْ يَكُنْ)[5].
3- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (مَا بَعَثَ الله نَبِيّاً حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْه ثَلَاثَ خِصَالٍ الإِقْرَارَ لَه بِالْعُبُودِيَّةِ وخَلْعَ الأَنْدَادِ وأَنَّ الله يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ ويُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ)[6].
4- عَنْ زُرَارَةَ عَنْ حُمْرَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: (سَأَلْتُه عَنْ قَوْلِ الله عَزَّوجَلَّ: (قَضى أَجَلاً وأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَه) قَالَ هُمَا أَجَلَانِ أَجَلٌ مَحْتُومٌ وأَجَلٌ مَوْقُوفٌ)[7].
5- عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ للهِ عِلْمَيْنِ عِلْمٌ مَكْنُونٌ مَخْزُونٌ لَا يَعْلَمُه إِلَّا هُوَ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ الْبَدَاءُ - وعِلْمٌ عَلَّمَه مَلَائِكَتَه ورُسُلَه وأَنْبِيَاءَه فَنَحْنُ نَعْلَمُه)[8].
6- عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: (الْعِلْمُ عِلْمَانِ فَعِلْمٌ عِنْدَ الله مَخْزُونٌ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْه أَحَداً مِنْ خَلْقِه وعِلْمٌ عَلَّمَه مَلَائِكَتَه ورُسُلَه فَمَا عَلَّمَه مَلَائِكَتَه ورُسُلَه فَإِنَّه سَيَكُونُ لَا يُكَذِّبُ نَفْسَه ولَا مَلَائِكَتَه ولَا رُسُلَه وعِلْمٌ عِنْدَه مَخْزُونٌ يُقَدِّمُ مِنْه مَا يَشَاءُ ويُؤَخِّرُ مِنْه مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ مَا يَشَاءُ)[9].
عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (الْعِلْمُ عِلْمَانِ فَعِلْمٌ عِنْدَ الله مَخْزُونٌ) لا يعلمه إلّا هو كما فسره بقوله: (لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْه أَحَداً مِنْ خَلْقِه) وهو العلم بسر القضاء والقدر ونحوه.
ثم قال (عليه السلام): (وعِلْمٌ عَلَّمَه مَلَائِكَتَه ورُسُلَه) تعليماً لا يحتمل متعلقه نقيضه وذلك بأن لا يكون معلقاً بشرط (فَمَا عَلَّمَه مَلَائِكَتَه ورُسُلَه فَإِنَّه سَيَكُونُ) على وفق ما علمهم من غير تغير وتبدل (لَا يُكَذِّبُ نَفْسَه ولَا مَلَائِكَتَه ولَا رُسُلَه) لا يكذب إما من الكذب أو من التكذيب أي لا يكذب نفسه في إخباره للملائكة بوقوع متعلقه ولا يكذب ملائكته في إخبارهم للرسل ولا يكذب رسله في إخبارهم للخلق; لأن الكذب نقص وقبيح وجب تنزهه تعالى وتنزه سفرته عنهما.
ثم قال (عليه السلام): (وعِلْمٌ عِنْدَه مَخْزُونٌ يُقَدِّمُ مِنْه مَا يَشَاءُ ويُؤَخِّرُ مِنْه مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ مَا يَشَاءُ) باختياره وإرادته إن كان لكل واحد من التقديم والتأخير والإثبات مصلحة تقتضيه وهذا هو المراد بالبداء هنا.
فقد ورد إن بعض الأعمال لها آثار فقد ورد ان الدعاء يرد القضاء وان الصدقة تدفع البلاء، فعن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: (إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه ان أخبر فلانا الملك: انى متوفيه إلى كذا وكذا فاتاه ذلك النبي فأخبره فدعا إلى الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير وقال يا رب أجلني حتى يشب طفلي وقضى امرى فأوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي ان ائت فلانا الملك فاعلم انى قد أنسيت في اجله وزدت في عمره إلى خمس عشره سنه فقال ذلك النبي (عليه السلام): يا رب انك لتعلم انى لم أكذب قط فأوحى الله عز وجل إليه: إنما أنت عبد مأمور فأبلغه ذلك والله لا يسئل عما يفعل)[10].
وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)قال: (مر يهودي بالنبي (صلى الله عليه وآله) فقال: السام عليك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عليك، فقال أصحابه: إنما سلم عليك بالموت قال: الموت عليك، قال النبي (صلى الله عليه وآله): وكذلك رددت، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن هذا اليهودي يعضه أسود في قفاه فيقتله قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطبا كثيرا فاحتمله ثم لم يلبث أن انصرف فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ضعه فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود فقال: يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملا إلا حطبي هذا احتملته فجئت به وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بها دفع الله عنه. وقال: إن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان)[11].
وقال الفاضل الأسترآبادي في معنى: (وعِلْمٌ عِنْدَه مَخْزُونٌ)، أي مقدر في اللوح المحفوظ أولاً على وجه ثم يغير ذلك إلى وجه آخر لمصلحة حادثة وهذا هو البداء في حقه تعالى.
وقال الفاضل الشوشتري في حله: ولعله إنما يستقيم البداء فيه ويرتفع العبث ولا يتطرق شبهة التغير في علمه إذا قلنا بإثبات مخزونه في موضع واطلع عليه أحد ولم يجز له إظهاره وأنه اطلع بعض الناس عليه، فليتأمل.
مجلة بيوت المتقين العدد (23)
[1] سورة الزمر:47- 48.
[2] سورة الرعد: 12.
[3] سورة الأعراف: 96.
[4] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٤٦.
[5] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٤٦.
[6] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٤٦.
[7] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٤٦.
[8] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٤٦.
[9] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٤٦.
[10] عيون أخبار الرضا(عليه السلام): ج1، ص161.
[11] الكافي، الشيخ الكليني: ج4، ص5.