تتصف بعض الظواهر والحوادث التاريخية بأنها تتجاوز حدود العقل والفهم البشري المحدود مع أنها غير مستحيلة عقلا ومنها بعض ما يرتبط بفضائل أهل البيت (عليهم السلام) الأمر الذي يستدعي أن يكون إثباتها مستندا إلى النصوص الثابتة والأخبار الصحيحة كما يستدعي نقلها إلى الأجيال اللاحقة طرقا تبعث على الاطمئنان وهذا هو الأسلوب الصحيح لإثباتها، أما من يحاول تفسير مثل هذه الظواهر من خلال العقل البشري العادي وضمن أطر الفهم الإنساني المحدود فإنه سوف لا يصل إلى نتيجة مقنعة، ويكثر فيها الأخذ والرد.
ومن هذه الحوادث التأريخية حادثة رد الشمس الواردة في كتب الفريقين والتي تنقل لنا الأخبار أنها حصلت لجملة من الأنبياء والأوصياء كنبي الله سليمان وموسى، ويوشع، والإمام علي (عليه السلام).
رد الشمس للامام علي (عليه السلام) مرتين
ومما استفاضت به الأخبار ورواه علماء السير والآثار ونُظمت فيه الأشعار رد الشمس لأمير المؤمنين (عليه السلام) مرتين، الأولى في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) والثانية بعد وفاته (صلى الله عليه وآله)، كما ورد ذلك عنه (عليه السلام) حيث يقول: ((إنّ الله تبارك وتعالى ردّ عليّ الشمس مرّتين ولم يردّها على أحد من أمة محمد (صلى الله عليه وآله) غيري))[1].
رد الشمس في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)
هذه الواقعة نقلتها نصوص كثيرة، لكن الخصوصيات المنقولة متعددة، لأنه – غالبا - إذا كثرت الطرق في نقل واقعة معينة، ولاسيما إذا لم تكن ألفاظا بل حدث تأريخي، فيكون النقل عادة للمعنى، وهو يختلف بحسب الناقل وما وصله من معلومات عن تلك الواقعة، وما غاب عنه منها، فتختلف الروايات بسبب ذلك في خصوصياتها بحسب ألسنة الرواة، ولكن مع هذا فإنه لا تنافي في الخصوصيات المذكورة في الروايات التي نقلت واقعة رد الشمس في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، بل إن كثرة الطرق وإن اختلفت مضامينها بعض الشيء مما يؤكد أصل الواقعة وهو ما يعبر عنه بالتواتر الإجمالي في علم الدراية، وهو من طرق اليقين في حصول الواقعة.
لذلك سوف نقتصر على خبر واحد في نقل هذه الواقعة، وهو: عن الإمام الصادق (عليه السلام): صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) العصر، فجاء عليّ (عليه السلام) ولم يكن صلاّها، فأوحى الله إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) عند ذلك، فوضع رأسه في حجر عليّ (عليه السلام) أي: فاجأته حالة الوحي، فنام في حجر علي لأخذ الوحي من الله تعالى، وقد كان (صلى الله عليه وآله) إذا جاءه الوحي اعترته حالة خاصة يغيب فيها عن عالم الدنيا، فلم يستطع أمير المؤمنين التحرك لئلا يقطع حالة الوحي وتلقي الرسالة، وفي رواية أنه صلى إيماء وهو على هذه الحال، وبهذا البيان تندفع كثير من الإشكالات حول الرواية غير ما سيأتي ذكره من الإشكالات، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حجره حين قام وقد غربت الشمس فقال: يا عليّ، أما صليت العصر؟ فقال: لا يا رسول الله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اللهمّ إنّ عليّاً كان في طاعتك، من الشرح المتقدم يفهم معنى هذه العبارة، فإن عليا (عليه السلام) كان في طاعة الله تعالى مادام النبي (صلى الله عليه وآله) رأسه في حجره، وفي هذا الحديث معانٍ عميقة لا يتحملها هذا العمل المتواضع فأردد عليه الشمس، فرُدّت عليه الشمس عند ذلك))[2].
وبني في هذا المكان مسجد الفضيخ وهو يسمى باسم آخر وهو مسجد رد الشمس.
رد الشمس أيام خلافة الإمام علي (عليه السلام)
وهذه الحادثة أيضا لها نقول متعددة ولكن مضمونها واحد، ونكتفي بنقل خبر واحد منها وهو ما ينقله جويرية بن مسهر: أقبلنا مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من قتل الخوارج حتى إذا قطعنا في أرض بابل حضرت صلاة العصر، فنزل أمير المؤمنين (عليه السلام) ونزل الناس، فقال عليّ (عليه السلام): أيّها الناس، إنّ هذه أرض ملعونة قد عذّبت في الدهر ثلاث مرّات - وفي خبر آخر مرّتين- وهي تتوقّع الثالثة وهي إحدى المؤتفكات - ائتفكتِ البَلدة بأهلها: أي انقلَبت؛ فهي مُؤتَفكة[3] -، وهي أوّل أرض عُبِدَ فيها وثن، وإنّه لا يحلّ لنبيّ ولا لوصيّ نبيّ أن يصلّي فيها، فمن أراد منكم أن يصلّي فليصلِّ. فمال الناس عن جنبي الطريق يصلّون، وركب هو (عليه السلام) بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومضى. قال جويرية: فقلت: والله لأتبعنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ولأُقلّدنه صلاتي اليوم، فمضيت خلفه، فوالله ما جزنا جسر سُوراء - سُوراء: موضع بالعراق من أرض بابل، وهي قريبة من الوقف والحِلّة المزيديّة[4] - حتى غابت الشمس فشككت، فالتفت إليّ وقال: يا جويرية أشككت؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فنزل (عليه السلام) عن ناحية فتوضّأ ثمّ قام فنطق بكلام لا أحسنه إلاّ كأنّه بالعبراني، ثمّ نادى الصلاة فنظرت والله إلى الشمس قد خرجت من بين جبلين لها صرير فصلّى العصر وصلّيت معه، فلمّا فرغنا من صلاتنا عاد الليل كما كان فالتفت إلي وقال: يا جويرية بن مسهر، إنّ الله عزّ وجلّ يقول: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [5] وإنّي سألت الله عزّ وجلّ باسمه العظيم فردّ عليّ الشمس، وروي أنّ جويرية لما رأى ذلك قال: أنت وصيّ نبيّ وربّ الكعبة))[6].
وقد خلّد الشعراء هاتين الحادثتين في شعرهم، منهم السيد الحميري رحمه الله في قصيدة مشهورة، يقول فيها:
رُدّت عليه الشمس لمّا فاتهُ وقت الصلاة وقد دنت للمغربِ
حتى تبلّج نورُها في وقتهــــا للعصر ثمّ هوت هويَّ الكوكبِ
وعليه قد رُدّت ببابل مرــــــّةً أُخرى وما ردّت لخلق مُعربِ
إلاّ ليُوشع أو لَه من بعدهِ ولردّها تأويلُ أمر مُعجبِ[7]
سعة نقل حديث رد الشمس وشهرته:
لهذا الحديث شهرة ملأت الآفاق فقد رواها عدد من الصحابة منهم عبد الله بن عباس وأنس بن مالك وأبو رافع، وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري وأبو هريرة وأم سلمة وأسماء بنت عميس.
ولقد أخرج حديث رد الشمس عدد كبير من محدثي أهل السنة وعلمائهم وقد صحح طرقه وأسانيده جمع من هؤلاء، فممن ذكره الفخر الرازي والرافعي والدياربكري والحافظ أبو بشر الدولابي والحافظ أبو القاسم الطبراني، والحاكم النيسابوري وابن مردويه الاصفهاني، والبيهقي، والخطيب البغدادي، وابن مندة، والقاضي عياض، وغيرهم.
وممن صحّح هذا الحديث: أبو جعفر أحمد بن صالح الطبري المصري، والطحاوي وابن حجر العسقلاني والسيوطي وابن حجر الهيثمي.
كما أفرد عدد كبير من الباحثين والمؤلفين تصانيف مستقلة عن الواقعة منهم أبو بكر الورّاق والفضيلي والحسكاني والسيوطي وابن مردويه وغيرهم كثير.
أجوبة الإشكالات على واقعة رد الشمس:
إن أعداء الفضيلة لم يدّخروا وسعا في سبيل إطفاء نور هذا الفضل العلوي والنيل من تألقه فراحوا يثيرون على هذه الواقعة إشكالات عديدة، ولكن العلماء لم يتركوها وأجابوا عليها.
الإشكال الأول: إن الأخبار التي تنقل هذه الواقعة ضعيفة السند.
وجوابه: إن الكثير من علماء أهل السنة ومحدّثيهم صحّح طرق الحديث، وحتى لو كانت جميع طرق الحديث ضعيفة فانه لا يؤثر، وذلك لان نقوله بلغت من الاستفاضة ما يكفي لحصول الاطمئنان بوقوع أصل الحادثة.
الإشكال الثاني: إن هذا الحديث معارض بحديث آخر وهو ((لم تحبس الشمس على أحد الا ليوشع)).
وجوابه: إن هذا الحديث يفيد أن هذه الواقعة لم تحصل في الأمم السابقة إلا ليوشع، ولكن هذا لا يعني عدم وقوعها في المستقبل.
الإشكال الثالث: إن الإيمان بهذه الواقعة لازمه طروء التغيرّ على نظام الافلاك، وهذا ممّا لا يمكن القبول به.
وجوابه: أنا ذكرنا في البداية أنّ الحادثة قد تكون أحياناً فوق التحليلات العقليّة العاديّة، ومن ثمّ يكفي في إثبات هذه الحوادث عدم استحالتها وتعارضها مع النصوص الثابتة. وممّا لا ريب فيه أنّ وقوع مثل هذه الحادثة ليس محالاً عقلاً حتى تعدّ خارج دائرة القدرة الإلهيّة، غايته هي على خلاف العادة، وهذا لا يمنع من الإيمان بها، على أنّها قد وقعت فعلاً على عهد يوشع كما سلفت الإشارة إليه.