تزكية النفس

إن النفس الإنسانية بطبعها ميّالة إلى الهوى، واللهو، واللعب، لذلك فهي محتاجة إلى التأديب والتهذيب، بالترغيب والترهيب، قال تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ[1].

وقال عَز مِن قائل: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا[2].

ومعنى زكّاها: أي زادها بطاعة الله والعمل الصالح، ودسّاها: أي نقّصها بالمعاصي والذنوب؟

وقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله) بعد أن رجع من إحدى غزواته: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)[3]. ويعني بالجهاد الأكبر هو جهاد النفس.

وكل إنسان يمكنه إصلاح نفسه وتهذيب أخلاقه، والتغيّر إلى الأفضل والأحسن، ولولا ذلك لما اجتهد الأنبياء، والأولياء، والحكماء في الدعوة إلى الأخلاق، بل ينبغي للعاقل أن يطلب الفضائل فيسعى إلى القناعة، والحلم، والمسالمة، والصبر، والسخاء، والعفو، والتودد، والتواضع، وأن يبتعد عن الرذائل ويتركها، مثل التكبر، والغضب، والبخل، والغيبة، والكذب، والجبن،
والنميمة... إلخ.

بل ينبغي للإنسان دائماً أن يحذر الدنيا، وما فيها من الشهوات والمحرّمات، ويتذكر النعيم العظيم، الذي سيحصل عليه إن هو ابتعد عن المحرّمات، وسار على طريق الطاعة والاستقامة.

مقومات إصلاح النفس وتزكيتها:

بداية كل تغيير وإصلاح للنفس في هذه الحياة سواء كان مادياً أو معنوياً يرتبط بأربعة أمور:

أولاً: الإحساس بالحاجة إلى التغيير: الإحساس بالحاجة - وبدون أدنى شك - دافع للإنسان إلى التحرك والإصلاح، ومثال ذلك هو الإنسان المريض، فشعوره بالألم يدعوه إلى التحرك لطلب العلاج، وعلى العكس تماماً إذا شعر الإنسان بأنه كامل، ولا يحتاج للإصلاح، فلا يدعوه ذلك للتحرك، وبما أن طبيعة الإنسان -غالباً- هي الغفلة عن نواقصه، فإنه لا يرى داعياً للتغيير، وإنما يرى ذلك من يقف على نواقصه، ويدرك ضرورة تغييرها.

ثانياً: المشارطة: وبعد شعور الإنسان بالنقص وإحساسه بالحاجة إلى التغيير، يأتي دور المشارطة بأخذ العهد مع نفسه فيما ينبغي عليه أن يعمله أو لا يعمله، فكل نظرة أو كلمة أوخطوة أو فكرة - وهو ما يقوم به الإنسان بشكل يومي - محسوبة ومسجلة عليه فيأخذ العهد من نفسه في كل صباح، أو كل أسبوع، أو كل شهر، أو سنة، أن يقوم بالعمل الخيري الآتي من أدعية، وصلاة وحج، وعمرة، وزيارة، وصلة أرحام، و... إلخ، وأن لا يعمل أي عمل فيه شر وفيه معصية وهكذا.

ثالثاً: المراقبة: تكون المشارطة قبل العمل، أمّا المراقبة فهي حين العمل، فيتابع ويراقب نفسه دائماً أثناء كلامه، فمثلاً يفكر هل هو في مرضاة الله أم في غير ذلك، وكل خطوة يخطوها يفكر هل كانت نيته لله أم لا؟، ففي رواية أنه جاء رجل إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله) فقال له: يا رسول الله أوصني، فقال له رسول الله(صلّى الله عليه وآله):
(فهل أنت مستوصٍ (أي هل تعمل بالوصية) إن أنا أوصيتك؟ حتى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلها يقول له الرجل: نعم يا رسول الله، فقال له رسول الله(صلّى الله عليه وآله):
فإني أوصيك إذا أنت هممتَ بأمر فتدبر عاقبته، فإن يَكُ رشداً فأمضه، وإن يَكُ غَيّاً فانته عنه)[4]، أي: إذا أردت القيام بعمل ما ففكر في نتائج هذا العمل.

رابعاً: المحاسبة: أي أن يحاسب نفسه في كل ليلة، أو بعد الانتهاء من العمل الذي قام به، وماذا عمل في يومه في طاعة الله عزّ وجلّ؟ فيطلب المزيد، وما عمله من المعاصي يقرر أن يتوب ولا يفعل ذلك مستقبلاً، فعن الإمام الكاظم(عليه السلام)
قال: (ليس مِنّا مَن لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإنْ عَمِل حُسنا استزاد الله، وإنْ عَمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه)[5].

فنحن مأمورون بمحاسبة أنفسنا ومراقبتها، ففي الحديث النبوي المشهور: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر)[6].

ففي كل ليلة عند النوم خذ المسبحة بيدك، وفكر كم ذنب عملت هذا اليوم، كم فكرة سوء، كم نظرة سوء، كم كذبة، كم غِيبة وهكذا في كل ليلة إلى أربعين ليلة، فإذا وجدت نفسك ليلة الأربعين تبحث عن ذنب واحد فلا تجده، فاشكر الله على ذلك، وصمم أن يكون كل عملك لله.

ويمكن تزكية النفس وحفظها من خلال الآتي:

1. اختيار مصاحبة الأخيار: واجتناب مجالسة ومصاحبة الأشرار وذوي الأخلاق السيئة، فمن عاشر قوماً ولو لزمن قليل اتصف بأخلاقهم كلياً أو جزئياً على قدر المدة وشدة التعلق بهم، فالنفس الإنسانية سريعة الميول والتقليد، فمن رافق إنساناً يكثر من قراءة القرآن والدعاء، فسوف يرى نفسه يكرر الكلمات التي سمعها من رفيقه.

ومن رافق إنساناً يكثر من ترديد الأغاني ليلهو بها، فسوف يرى نفسه يكرر كلمات الأغاني التي سمعها من رفيقه، وربما بدون أن يقصد ذلك، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (صحبة الأشرار تكسب الشر، كالريح إذا مرّت بالنتن حملت نتناً)[7].

وفي رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام)  أنه قال: (لا تصحبوا أهل البدع، ولا تجالسوهم، فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): المرء على دين خليله وقرينه)[8].

2. تعويد الإنسان نفسه على الصفات الأخلاقية الحميدة: فإن لذلك آثاراً كبيرةً على نفسه فيسعى إلى التواضع، والكرم، واحترام الآخرين، وإن وجدت لديه صفة لا تعجبه يسعى على تغييرها، فلو أحسّ أن نفسه تدعوه إلى البخل وعدم البذل هنا يحاول أن يعود نفسه على البذل وإنفاق المال لمن يستحقه، ويحاول أن يعرف فضل البذل وضرر البخل، ويسعى بطرق مختلفة إلى التغيير.

3. أن يعلم نفسه التروي في كل ما يفعله: حتى لا يصدر عنه وهو غافل ما يخالف الأخلاق الحميدة، فلا يستعجل مثلاً في التدخل في أمور الآخرين قبل أن يستعد لذلك.

4. الإبتعاد والحذر من كل شيء يهيج الشهوة لديه نظراً واستماعاً وتخيلاً: فمن هيّج شهوته قد لا يستطيع أن يمسك نفسه في الوقوع فيما حرم الله عزّ وجلّ، فالحذر كل الحذر من الانزلاق في مضلات الفتن.

5. أن يهتم في البحث عن عيوب نفسه: ويجتهد في إصلاحها، ويمكن في ذلك أن يستشير أصحاب الرأي السديد فالإنسان عادةً لا يَعِيب نفسه، وكذلك أن يجعل الناس مرايا لعيوبه، فما قَبُحَ من عيوب الناس لا يُقدم عليه، قال الشاعر:

عليك بِبِرّ الوالدين كليهما

 

وبرِّ ذوي القربى وبرّ الأباعد

ولا تصحبنْ إلا تقيّاً مُهذباً

 

عفيفاً، ذكياً، منجزاً للمواعد

وقارن إذا قارنت حراً مؤدباً

 

فتىً من بني الأحرار زين المشاهد

وكُفَّ الأذى واحفظ لسانك واتقِ

 

فدينُك في ودِّ الخليل المساعد

وغُضَّ عن المكروه طرفَك واجتنب

 

أذى الجار واستمسك بحبل المحامد

وكن واثقاً بالله في كل حادث

 

يَصُنْكَ مدى الأيام من شر حاسد

وبالله فاستعصم، ولا ترجُ غيره

 

ولا تكُ في النعماء عنه بجاحد

ونافس ببذل المال في طلب العلى

 

بهمّة محمود الخلائق ماجدِ

ولا تَبْنِ في الدنيا بناء مؤمل

 

خلوداً فما حيٌ عليها بخالد.

 

من قصص العلماء في تزكية النفس:

ينقل أن السيد بحر العلوم أراد أن يختبر المرحوم الملا مهدي النراقي -وكان متبحراً في كثير من العلوم وقد ألّف كتاب (جامع السادات) في علم الأخلاق وتزكية النفس- كان قد أرسل نسخة من كتابه المذكور إلى السيد بحر العلوم في النجف الأشرف، ومن ثم سافر بنفسه إلى زيارة العتبات المشرفة، ودخل النجف، فجاء العلماء إليه تجليلاً لمكانته السامية، إلا أن السيد بحر العلوم امتنع عن المجيء لزيارته، ولم تمضِ أيام حتى قام المرحوم النراقي بزيارة بحر العلوم في بيته، وأمضى معه ساعة من الوقت، وهذه المرة لم تكن أفضل من سابقتها، حيث إن بحر العلوم لم يهتمّ إهتماماً كبيراً بالنراقي، فرجع النراقي إلى منزله، ومرة أخرى زار النراقي بحر العلوم دون أن يُفكر بأنه لا فائدة مرجوة من اللقاء ببحر العلوم و.... و.... وهذه هي المرة الثالثة، فما أن وصل منزل السيد، وطلب الإستئذان، حتى خرج إليه بحر العلوم حافياً لإستقباله، واحتضنه وقبّله، وأدخله المنزل بكل احترام وتجليل، وبعد أداء الاحترام قال السيد مخاطباً النراقي: كتبتم كتاباً في الأخلاق وتزكية النفس وأهديتمونا نسخة منه، وأنا قد طالعت الكتاب من أوله إلى آخره بكل دقة وإمعان، والحق يُقال إنه كتاب يقلُّ نظيره، ومفيد جداً، وأما السبب في عدم مجيئي لزيارتكم واستقبالكم منذ ورودكم إلى النجف، وعدم الاهتمام اللائق بشأنكم عند زيارتكم لنا في المنزل، كل ذلك قمت به عمداً، لأطلع على أنك عامل بما كتبت أو لا؟.

فظهر لي إنك في أعلى درجات تزكية النفس، وأنت بنفسك كتاب أخلاق، تهدي الآخرين بأخلاقك، وليس بكتابك فحسب.

 


[1] سورة يوسف: آية53.

[2] سورة الشمس: آية7-10.

[3] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج67، ص71.

[4] الكافي، الشيخ الكليني: ج8، ص150.

[5] المصدر السابق: ج2، ص453.

[6] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج16، ص99.

[7] غرر الحكم، الآمدي: ح5839.

[8] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص375.