(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[1].
سبب النزول:
ذكر الطبرسي في مجمع البيان في سبب نزول هذه الآية: أنه كان لرجل من المدينة اسمه (أبو الحصين) ولدان دعاهما إلى اعتناق المسيحية بعض التجار الذين كانوا يفدون على المدينة، فتأثر الولدان بما سمعا واعتنقا المسيحية، ورحلا مع أولئك التجار إلى الشام عند عودتهم. فأزعج ذلك أبو الحصين، وأقبل يُخبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) بما حدث، وطلب منه أن يعمل على إعادة ولديه إلى الإسلام، وسأله إن كان يجوز إجبارهما على الرجوع إلى الإسلام، فنزلت الآية المذكورة وبيّنت أنَّ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).
وجاء في تفسير المنار أنّ أبا الحصين كان يريد إكراه ولديه على الرجوع إلى أحضان الإسلام، فجاءا مع أبيهما لعرض الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال أبو الحصين: كيف أجيز لنفسي أن أنظر إلى ولدي يدخلان النار دون أن أفعل شيئا؟ فنزلت الآية.
الدين ليس إجباريا:
إنّ الآية التي سبقت هذه الآية هي آية الكرسي والتي تشتمل على ذكر توحيد الله تعالى ومجموعة من صفاته الجمالية والجلالية التي تشكّل أساس الدين، وبما أنّها قابلة للاستدلال العقلي في جميع المراحل وليست هناك حاجة للإجبار والإكراه تقول هذه الآية: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).
(الرُّشْدُ) لغوياً: تعني الهداية للوصول إلى الحقيقة، بعكس (الْغَيِّ) التي تعني الانحراف عن الحقيقة والابتعاد عن الواقع.
ولما كان الدين يهتم بروح الإنسان وفكره ومبني على أساس من الإيمان واليقين، فليس له إلّا طريق المنطق والاستدلال وجملة: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، هي إشارة إلى هذا المعنى، فهذه الآية ردّ حاسم على الذين يتهمون الإسلام بأنّه استخدم القوة وحدّ السيف في تقدّمه وانتشاره، وعندما نرى أنّ الإسلام لم يسوغ التوسل بالقوة والإكراه في حمل الوالد لولده على تغيير عقيدته الدينية، فإنّ واجب الآخرين بهذا الشأن يكون واضحاً، إذ لو كان حمل الناس على تغيير أديانهم بالقوة والإكراه جائزاً في الإسلام، لكان الأولى أن يجيز للأب ذلك لحمل ابنه على تغيير دينه، في حين أنّه لم يعطه مثل هذا الحق .
ثمّ إنّ الآية الشريفة تقول كنتيجة لما تقدّم: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا).
(الطَّاغُوتِ) صيغة مبالغة من طغيان، بمعنى الاعتداء وتجاوز الحدود، ويطلق على كل ما يتجاوز الحد؛ لذلك فالطاغوت هو الشيطان والصنم والمعتدي والحاكم الجبار والمتكبر، وكل معبود غير الله، وكل طريق لا ينتهي إلى الله. وهذه الكلمة تعني المفرد وتعني الجمع.
الإشارة في نهاية الآية إلى الحقيقة القائلة: إنّ الكفر والإيمان ليسا من الأمور الظاهرية؛ لأنّ الله عالم بما يقوله الناس علانية - وفي الخفاء - وكذلك هو عالم بما يُكنّه الناس في ضمائرهم وقلوبهم.
وفي هذه الجملة ترغيب للمؤمنين الصادقين، وترهيب للمنافقين.
الدين لا يفرض:
لا يمكن للإسلام ولا للأديان الحقّة الأخرى أن تفرض فرضاً على الناس لسببين:
1 - بعد كل تلك الأدلة والبراهين الواضحة والاستدلالات المنطقية والمعجزات الجلية لم تكن ثمّة حاجة لذلك، وإنما يستخدم القوة مَن أعوزه المنطق والحجة، والدين الإلهي ذو منطق متين وحجة قوية.
2 - إنّ الدين القائم على أساس مجموعة من العقائد القلبية لا يمكن أن يُفرض بالإكراه، فإنّ عوامل القوة والسيف والقدرة العسكرية يمكنها أن تؤثّر في الأجسام لا في الأفكار والمعتقدات.
يتضح مما تقدّم أنّ الحروب التي خاضها الإسلام كانت إمّا دفاعية، وإمّا تحريرية، ولم يكن هدف هذه الحروب السيطرة والتوسع، بل الدفاع عن النفس، أو إنقاذ الفئة المستضعفة الرازحة تحت سيطرة طواغيت الأرض، وتحريرها من ربقة العبودية لتستنشق عبير الحرية وتختار بنفسها الطريق الذي ترتئيه.
وجميع الذين يطالعون التاريخ الإسلامي يعرفون هذه الحقيقة، بل إن المسيحيين الذين كتبوا في الإسلام يعترفون بهذا أيضا، يقول مؤلف: (حضارة الإسلام أو العرب): (كان تعامل المسلمين مع الجماعات الأخرى من التساهل بحيث إنّ رؤساء تلك الجماعات كان مسموحا لهم بإنشاء مجالسهم الدينية الخاصة).
وقد جاء في بعض كتب التاريخ أنّ جمعاً من المسيحيين الذين كانوا قد زاروا رسول الله(صلى الله عليه وآله) للتحقيق والاستفسار أقاموا قدّاسا في مسجد النبي في المدينة بكل حرية.
إنّ الإسلام - من حيث المبدأ - توسل بالقوة العسكرية لثلاثة أمور:
1 - لمحو آثار الشرك وعبادة الأصنام؛ لأنّ الإسلام لا يعتبر عبادة الأصنام ديناً من الأديان، بل يراها انحرافاً ومرضاً وخرافة، ويعتقد أنّه لا يجوز مطلقاً أن يسمح لجمع من الناس أن يسيروا في طريق الضلال والخرافة، بل يجب إيقافهم عند حدّهم، لذلك دعا الإسلام عبدةَ الأصنام إلى التوحيد، وإذا قاوموه توسل بالقوة وحطّم الأصنام وهدم معابدها، وحال دون بروز أيّ مظهر من مظاهر عبادة الأصنام، لكي يقضي تماماً على منشأ هذا المرض الروحي والفكري.
وهذا يتبيّن من آيات القتال مع المشركين، مثل قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)[2] وليس هناك أيّ تعارض بين الآية التي نحن بصددها وهذه الآية.
2 - لمقابلة المتآمرين للقضاء على الإسلام، عندئذٍ كانت الأوامر تصدر بالجهاد الدفاعي وبالتوسل بالقوة العسكرية، فإنّ معظم الحروب الإسلامية على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) كانت من هذا القبيل.
3 - للحصول على حرية الدعوة والتبليغ، حيث إنّ لكل دين الحق في أن يكون حرّاً في الإعلان عن نفسه بصورة منطقية، فإذا منعه أحد من ذلك فله أن ينتزع حقّه هذا بقوة السلاح[3].
مجلة بيوت المتقين العدد (74)