وُقُوعُ التَّحْريفِ في الدِّيَانَاتِ السَّابقةِ وَعَدَمِ وُقُوعهِ في الدِّينِ الإِسْلامِي
في هذه الأسطرالقلائل نحاول أن نسلط الكلام على قضية من القضايا العقائدية المهمة وهي: وقوع التحريف في الديانات السابقة وعدم وقوعه في الدين الإسلامي، وسنتعرّض إلى بيان الضابطة في وقوع التحريف من عدمه، فنقول:
من الأمور التي نؤمن بها نحن كمسلمين هو: أن الرسالات والديانات السابقة على رسالة الإسلام قد تعرّضت للتحريف دون رسالة الإسلام، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) سورة الحجر 9، ولذلك لم تستحق هذه الأمة رسالة ونبوة جديدة، إذ التحريف أحد عوامل استحقاق الأمة لنبوة ورسالة جديدة.
إلّا أننا رغم ذلك لا نجد اتفاقاً ولا إجماعاً بشرياً على الإسلام، ولا أن الفرقاء المسلمين اتفقوا في مقولاتهم الإسلامية، فلِمَ صح لنا ـ والحال هذه ـ أن نصف الشرائع السابقة بالتحريف دون شريعتنا رغم عدم الاتفاق عليها، فما هو المعيار في التحريف وعدمه؟
نقول: ليس المعيار في عدم التحريف هو الإجماع والاتفاق، ولا علامة التحريف هو الاختلاف وعدم الإجماع، فالتحريف وعدمه لا يدور مدار الإجماع على الدين وعدمه، بل المعيار في وقوع التحريف وعدمه راجع إلى نوع الاختلاف الذي يقع في الأمة، فإن الاختلاف على نوعين:
فهناك ما يكون الاختلاف فيه صادراً من الجميع، فكل الأطراف تمثّل سبباً للاختلاف، وكل طرف منها يمارس الاختلاف من موقعه، بحيث لا نجد هناك طرفاً إلّا وهو مختلف مع الآخر، فتتحوّل الحقيقة فيه إلى نسبية لدى الجميع، وهنا يقع التحريف في الشريعة، إذ لا نجد بين الفرقاء المختلفين من هو متمسك بأصل ثابت أو أساس متصل بالسماء، وحافظا لما أنزل الله سبحانه وتعالى، وهذا النوع من الاختلاف هو الذي يسبب التحريف في الشريعة، وهذا النوع من الاختلاف هو الذي وقع في الديانات السابقة.
وهناك نوع آخر من التحريف يكون الاختلاف جزئياً، ويقع من البعض وليس من الكل، بحيث تبقى الحقيقة ـ معادلات الدِّين وأسسه ـ محفوظة کما هي لدى البعض، ويأخذ هذا البعض موقع الدفاع عنها والحماية لها، والدعوة إليها يأخذ موقع الممانعة من الاختلاف لا المساهمة فيه، وهذا النوع من الاختلاف لا يسبب الانحراف في الشريعة؛ لإنه يوجد طرف من أطراف الخلاف محافظ على الثوابت وأساسيات الدين، وهذا النوع هو الواقع في شريعتنا.
فليس الإجماع هو الرهان في وقوع التحريف وعدمه، بل عدم التحريف هو على بقاء الحقيقة كما هي ولو لدى فئة، لا أن تتبعض وتتوزع بين الفرقاء، بحيث كل فريق من الفرقاء المتخاصمين عنده جزء منها، وهذا الخلاف هو الذي نؤمن بوقوعه في الإسلام، فالحقيقة بأجمعها بقيت محفوظة في المعصوم (عليه السلام)، وقد تمكن المعصوم (عليه السلام) من نشر كليات هذه الحقيقة ـ الأسس والمحوريات ـ کما هي في وسط مجموعة من الأتباع لتبقى محفوظة كما هي، ومضمونة الحقّانية الى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فكانت هذه الفئة ـ المعصوم (عليه السلام) وأتباعه ـ مستعدة للتضحية بكل ما يملكون إزاء الحفاظ على الحقيقة كما هي، والمتابع لسيرة أئمة الهدى (عليهم السلام) يلحظ بوضوح أنهم لم يألوا جهداً في الحفاظ على الدين، وإن أدى ذلك إلى قتلهم وتشريدهم وما شابه ذلك، فلم يكونوا لينظروا إلى دنيا، أو يطمعوا في سلطان، أو حتى أمان، فالمهم عندهم هو حفاظهم على الدين، ولسان حالهم هو لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما قال: (لَقَدْ عَلِمْتُمْ انّي أحَقُّ النّاسِ بِها مِنْ غَیري؛ ووَاللِه لَا سَلِّمَنَّ ما سَلِمَتْ أمورُ الْمُسْلِمینَ، ولَمْیکنْفیهاجَوْرٌ إلّا عَلَيَّ خاصَّةً)[1].
فأذن هذا هو المعيار في وقوع التحريف وعدمه، ولذا صح لنا أن نصف الشرائع السابقة بأنها محرّفة، وأن شريعتنا باقية ولم تحرف.
[1] نهج البلاغة، عبده: ص121.