أفاقت الأمة بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) على خسارتها التي لا تُعوَّض، ووجدت نفسها تحتضن بحبات قلوبها بقية عترة نبيها (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السلام)، فبادرت إلى بيعة الحسن (عليه السلام) كبيرِ السبطين، والإمامِ بنص جده وأبيه (عليهم السلام).
قال الطبري في تاريخه[1]: ذِكرُ بيعة الحسن بن علي: وفي هذه السنة أعني سنة أربعين بويع للحسن بن علي بالخلافة، وقيل إن أول مَن بايعه قيس بن سعد قال له: أبسط يدك أبايعك على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه وقتال المُحلِّين فقال له الحسن: على كتاب الله وسنة نبيه فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط، فبايعه وسكت، وبايعه الناس.
وقال اليعقوبي[2]: واجتمع الناس فبايعوا الحسن بن علي، وخرج الحسن بن علي إلى المسجد الجامع فخطب خطبة له طويلة، ودعا بعبد الرحمن بن ملجم فقال عبد الرحمن: ما الذي أمرك به أبوك؟ قال: أمرني ألا أقتل غير قاتله وأن أُشبِع بطنَك وأنعم وطاءك، فإن عاش اقتص أو عفى، وإن مات أُلحِقنَّك به. فقال ابن ملجم: إن كان أبوك ليقول الحق ويقضي به في حال الغضب والرضى، فضربه الحسن بالسيف فاتقاه بيده فندرت، وقتله.
وفي مقاتل الطالبيين[3]: خطب الحسن بعد وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: قد قُبِضَ في هذه الليلة رجل لم يَسبقه الأولون ولا يُدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجهه برايته فيكنفه جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه، ولقد تُوفي في الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم والتي تُوفي فيها يوشع بن نون، وما خلَّف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله. ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه، ثم قال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير، أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، والذين افترض الله مودتهم في كتابه إذ يقول: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت.
فلما انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة قام عبد الله بن العباس بين يديه، فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا وقالوا: ما أحبَّه إلينا وأحقَّه بالخلافة! فبايعوه، ثم نزل من المنبر[4].
والمقطع المتقدم فقرة من أول خطبة خطبها الإمام الحسن (عليه السلام) بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد نصَّ المحدثون والمؤرخون كما في اليعقوبي على أنها طويلة، لكن الرواة لم ينقلوا منها إلا قليلاً، كعادتهم في أكثر الخطب والأحاديث الصريحة التي تبين مقام أهل البيت (عليهم السلام) وظلامتهم! حيث كانوا وما زالوا يخافون غضب بني أمية وأتباعهم إن رَوَوها!
وتدل الفقرات التي وصلت إلينا على أن الإمام الحسن (عليه السلام) بيَّن في خطبته مكانة أمير المؤمنين وأهل البيت (عليهم السلام)، وكشف جانباً من مؤامرة قبائل قريش عليهم، وحذَّر من الفتنة الأموية على الإسلام، ودعا المسلمين مجدداً إلى جهادهم، مؤكداً خط أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وجهوده لإعادة العهد النبوي.
ويظهر أن شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبة الإمام الحسن (عليه السلام) كان لهما تأثير عميق على المسلمين وأن بيعتهم له كانت بالإجماع.