الإمام الصادق (عليه السلام) مع بعض المعتزلة

إن العلوم التي كانت عند أئمتنا (عليهم السلام) هي علوم تلقوها من جدّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو المعبَّر عنه في الروايات بـ (العلم الموروث)، وهو علم يشمل كتاب الله الكريم بتمامه، إذ هو تبيان لكل شيء، وهو أيضاً علم بالسنَّة الشريفة بتفاصيلها ودقائقها، وهو شامل لكل العلوم التي أنزلها الله عز وجل على أنبيائه من عهد نبيه آدم (عليه السلام) إلى زمان نبيِّنا الكريم (صلى الله عليه وآله)، فكانوا (عليهم السلام) ضليعين بكل العلوم، دنيويةً كانت أو أخروية، شهودية كانت أو غيبية، فهم عالمون بكل شيء، لا يغيب عنهم شيء أبداً، ولا يترددون بجواب قط، لم تحيّرهم المواقف، ولم يغلبهم في ميادين العلم غالب، حتى عرفهم القاصي والداني، وأذعن لهم الإنس والجن، وذلت لهم رقاب الخلائق أجمع، لقوة ما عندهم من العلوم الإلهية التي زقّوها زقّاً، وتوارثوها طاهراً عن طاهر.

  إمامنا الصادق (عليه السلام) هو أحد نجوم تلك السلالة الطاهرة، وهو الإمام الذي أذعنت لها العامة والخاصة، وشهدت له المذاهب والديانات بل حتى الزنادقة والملحدين.

  فقيل يوماً إن الإمام (عليه السلام) سأل عمرو بن عبيد المعتزلي، وكان حوله رجال من قومه ومناصريه عن الصدقة ومصرفها؛ ليعلم الناس من خلال مناقشته معهم بعدم معرفتهم لأبسط أحكام الله سبحانه، ناهيك عن عدم اتّباعهم لإمام زمانهم الحاضر بين أظهرهم.

  فقال له الإمام سلام الله عليه: ما تقول في الصدقة؟ وقرأ (عليه السلام) الآية الكريمة عليه: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهِ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[1]، فهل قرأت هذه الآية؟

فقال عمرو بن عبيد: بلى قد قرأتها.

فقال الإمام (عليه السلام): فكيف تقسّم الصدقة فيها؟
قال بن عبيد: أقسّمها على ثمانية أجزاء، فأعطي كل جزء من الثمانية جزءاً.

فقال (عليه السلام): وإن كان صنف منهم عشرة آلاف، وصنف منهم رجلاً واحداً أو رجلين أو ثلاثة؟

قال بن عبيد: جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف من دون فرق.

فقال الإمام (عليه السلام): وكيف تقسّم صدقات أهل البوادي وأهل الحضر؟

 قال بن عبيد: أجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي، فأجعلهم فيها سواء.

فقال الإمام الصادق (عليه السلام): قد خالفت سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل ما قلت، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسّم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي، وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر، ولا يقسمها بينهم بالسويَّة، وإنما يقسمها على قدر ما يحضره منهم وما يراه مناسباً، وليس عليه في ذلك شيء موقّت موظّف، وإنما يصنع ذلك بما يرى على قدر من يحضره منهم، فإن كان في نفسك مما قلت شيءٌ أو اعتراض فألقِ فقهاء أهل المدينة فإنهم يتفقون ولا يختلفون في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هكذا كان يصنع.

وقال الإمام (عليه السلام) موجّهاً الكلام له ومن حوله: (فأتق الله، وأنتم ـ أيُّها الرهط ـ فاتقوا الله، فإن أبي حدَّثني ـ وكان خير أهل الأرض، وأعلمهم بكتاب الله عزَّ وجلَّ وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) ـ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من ضرب الناس بسيفه، ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف)[2]. [3]

مجلة اليقين، العدد (44)، الصفحة (8 - 9).

 


[1] سورة التوبة: 60.

[2] الكافي للكليني: ج5، ص23 ـ 27 ح1.

[3]   كتاب مناظرات في الإمامة للشيخ عبد الله الحسن ج4، ص47.