إن الإنسان بفطرته السليمة النقية يميل إلى الحق وينكر الباطل حتى لو كان من يحمله أقرب الناس إليه، وقد كان محمد بن أبي بكر مثالاً لهذه الفطرة السليمة والنقية وإحقاقها للحق رغم العديد من الظروف الصعبة التي يمر بها الإنسان وتجبره أحياناً على مسايرة الباطل حتى ولو كان على حساب إعلاء كلمة الحق.
أسمه وكنيته وولادته (رضي الله عنه):
أبو القاسم، محمد بن أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة التيمي (رضوان الله عليه)، ولد في المدينة (بذي الحليفة) في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة في اليوم الذي خرج فيه النبي(صلى الله عليه وآله) لحجة الوداع.
أُمّه :
السيّدة أسماء بنت عُميس الخثعمية، تزوّجها جعفر بن أبي طالب(رضي الله عنه)، وهاجرت معه إلى الحبشة، وبعد استشهاده في معركة مؤتة تزوّجها أبو بكر، فولدت له محمداً في طريقهم إلى مكة في حجة الوداع، وبعد موته تزوّجها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، فانتقلت إلى بيته مع ولدها محمّد الذي كان يومئذٍ ابن ثلاث سنين فنشأ تحت رعاية أمير المؤمنين(عليه السلام).
نشأته وجوانب من حياته:
تربى ونشأ محمد بن أبي بكر في بيت الإمام علي(عليه السلام) كواحد من أولاده، ولذا لقب بربيب أمير المؤمنين(عليه السلام).
عدّه الشيخ المفيد(قدس سره) من المجمعين على خلافة الإمام علي(عليه السلام) وإمامته بعد قتل عثمان، وكان من شرطة الخميس، ومن أمرائهم في الكوفة.
شهد مع أمير المؤمنين(عليه السلام) معركة صفين والجمل وكان فيها من قادة الجيش، ثم تولّى إعادة عائشة -باعتبارها أُخته- بعدما أمره الإمام(عليه السلام) بذلك قائلاً له: «شأنك بأختك، فلا يدنو منها أحد سواك» [1] .
وعندما أقبل الليل احتمل أخته عائشة بهودجها وأدخلها البصرة وأنزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي، ضيفة عند صفيةً بنت الحرث بن أبي طلحة، ثم أعادها بأمر من أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى المدينة المنورة برفقة أربعين امرأة متنكرات بزيّ ثياب الرجال حرساً لها.
ولايته لمصر:
عيّنه الإمام علي(عليه السلام) والياً على مصر، بعد واليه الأول عليها قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري وجاء في كتابه(عليه السلام) إلى أهل مصر ما نصّه: «أحسنوا أهل مصر مؤازرة محمّد أميركم، واثبتوا على طاعتكم تردوا حوض نبيّكم(صلى الله عليه وآله)، أعاننا الله وإيّاكم على ما يرضيه» [2] . وكان ذلك في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك من عام 37هـ.
وقد ورد في نهج البلاغة أن أمير المؤمنين(عليه السلام) أرسل إلى محمد بن أبي بكر بخصوص توليته على مصر كتاباً جاء فيه: «فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ والنَّظْرَةِ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ ولا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ والْكَبِيرَةِ والظَّاهِرَةِ والْمَسْتُورَةِ فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ ... واعْلَمْ يَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ وأَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ ولَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلا سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ ولا تُسْخِطِ اللهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّ فِي اللهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ ولَيْسَ مِنَ اللهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ صَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا ولا تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ ولا تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لاشْتِغَالٍ واعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلاتِكَ»[3] .
من أولاده:
1- القاسم من ثقات أصحاب الإمامين زين العابدين والإمام الباقر(عليهما السلام)،
(أحد فقهاء المدينة المتّفق على علمه وفقهه بين المسلمين)، وابنته أُمّ فروة فاطمة زوجة الإمام الباقر، وأُمّ الإمام الصادق(عليهما السلام).
2- جابر من أصحاب الإمام زين العابدين(عليه السلام).
من أقوال الأئمّة (عليهم السلام) فيه :
1- قال الإمام علي(عليه السلام): «محمّد ابني من صلب أبي بكر» [4] .
2- قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان عمّار بن ياسر، ومحمّد ابن أبي بكر، لا يرضيان أن يُعصى الله عزّ وجل» [5] .
3- قال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما من أهل بيت إلّا ومنهم نجيب من أنفسهم، وأنجب النجباء من أهل بيت سوء، منهم محمّد ابن أبي بكر» [6].
4- قال الإمام الصادق(عليه السلام): «فمحمّد بن أبي بكر أتته النجابة من قبل أُمّه أسماء بنت عُميس»[7] .
5- قال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين حواريي محمد بن عبد الله رسول الله، الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر، ثم ينادي: أين حواريي علي بن أبي طالب وصي محمد بن عبد الله رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي ومحمد بن أبي بكر وميثم بن يحيى التمار مولى بني أسد وأويس القرني»[8].
من أقوال العلماء فيه:
1- قال ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656هـ): (كان محمّد من نسّاك قريش)[9] .
2- قال العلّامة الحلّي(قدس سره): (جليل القدر، عظيم المنزلة، من خواص
علي(عليه السلام))[10] .
3- قال الشيخ علي النمازي الشاهرودي (قدس سره): (هو من حواريي أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن خواصه، من الأصفياء ومن السابقين المقربين، جليل القدر، عظيم المنزلة، وهو أنجب النجباء من أهل بيت سوء أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس...)[11] .
استشهاده (رضوان الله عليه):
استشهد محمّد بن أبي بكر (رضي الله عنه) في الرابع عشر من صفر 38هـ، وكان له من العمر ثمان وعشرون سنة، على يد معاوية بن حُدَيج الكندي عطشاناً، بأمر من معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وقد طلب أن يسقيه الماء فقال له معاوية: لا أسقاني الله إن سقيتك قطرة أبداً، ... والله لأقتلنّك يا ابن أبي بكر وأنت ظمآن، ويسقيك الله من الحميم والغسلين.
فقال له محمد: يا ابن اليهودية النسّاجة، ليس ذلك اليوم إليك...، إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه، وهم أنت وقرناؤك ومَن تولاك وتولّيته، والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني ما بلغتم.
فقال له معاوية بن حديج: أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثم أحرقه عليك بالنار، وكان في المغارة جيفة حمار ميت.
قال: إن فعلتم ذلك بي فطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وأيم الله إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوفني بها برداً وسلاماً، كما جعلها الله على إبراهيم خليله، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه، وإني لأرجو أن يحرقك الله وإمامك بنار تَلَظّى، كلّما خَبَتْ زادها الله عليكم سعيراً.
ثم غضب معاوية بن حديج، فقدّمه وضرب عنقه، ثم ألقاه في جوف حمار وأحرقه بالنار، فلمّا بلغ ذلك الخبر عائشة أخته، جزعت عليه جزعاً شديداً، وصارت تقنت في كلّ صلاة تدعو على (قاتليه) معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج [12].
تجلّت ملامح تلك الشخصيّة الفذة في الحوار الذي جرى بين محمد وبين آسره، فلم يَهنْ ولم يحزن، بل ظلّ شامخاً أبياً، حتى قتلوه، ودُفن في القاهرة، وقبره معروف يُزار.
وهذا دليل على أن لا قدسية للصحابة فيما بينهم وإنما هذا أمر (القداسة) ابتدعه المتأخرون لإضفاء الشرعية على كل ما يصدر منهم من أفعال وأقوال مخالفة لسنة النبي وأهل بيته(عليهم السلام).
وفي مقابل حزن عائشة على أخيها، كانت فرحة ضرتها أم حبيبة بنت أبي سفيان أخت معاوية، فقد ابتكرت بكيدها أسلوباً للشماتة بمقتل محمد!
ففي الغارات للثقفي[13]: (لما قتل ووصل خبره إلى المدينة مع مولاه سالم ومعه قميصه، ودخل به داره اجتمع رجال ونساء! فأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي(صلى الله عليه وآله) بكبش فشُوِيَ، وبعثت به إلى عائشة وقالت: هكذا قد شُوِيَ أخوك! فلم تأكل عائشة بعد ذلك شواء حتى ماتت) .
وفي الغارات أيضاً [14]: (حلفت عائشة لا تأكل شواءً أبداً ، فما أكلت شواءً بعد مقتل محمد حتى لحقت بالله! وما عثرت قط إلا قالت: تعس معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج).
إنّ المؤرخين ذكروا أنّ عائشة أقامت الدنيا وأقعدتها على عثمان وحرضت على قتله بل أفتت بكفره، لكن نجد عائشة لم تصنع ذلك ولم تُحرض على معاوية، كما فعلت مع عثمان، وما ذاك إلا لاشتراكهما بهدف واحد وهو عداوتهما لأهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله).
تأبينه:
حسبه (رضي الله عنه) من الإكرام والتجليل ما أبّنه به الإمام علي(عليه السلام) وتلهّف عليه وتأسّف، وتشوّق إليه، وأثنى عليه، حيث قال(عليه السلام): «فلقد كان إليّ حبيباً، وكان لي ربيباً»[15] .
وقال(عليه السلام): «فعند الله نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً»[16] .
ولقد حزن أمير المؤمنين(عليه السلام) عليه حتّى رؤي ذلك فيه، وتبيّن في وجهه، فقيل لأمير المؤمنين(عليه السلام): «لقد جزعتَ على محمّد بن أبي بكر جزعاً شديداً يا أمير المؤمنين؟ قال: وما يمنعني! إنّه كان لي ربيباً، وكان لبنيّ أخاً، وكنت له والداً، أعدّه ولدا» [17].
ومن خلال كلام المعصوم والذي هو لا يحابي ولا يجامل ولا تأخذه في الله لومة لائم... نعرف قدر ومنزلة محمد بن أبي بكر وما له من الشأن العظيم والرفعة والدرجة.
مجلة بيوت المتقين العدد (14)
[1] المناقب الخوارزمي: ص189.
[2] الأمالي الشيخ الطوسي: ص269.
[3] نهج البلاغة: ص383.
[4] بحار الأنوارللمجلسي: ج42، ص162.
[5] رجال الكشي الشيخ الطوسي: ج1، ص 281.
[6] رجال الكشي الشيخ الطوسي: ج1، ص 283.
[7] الاختصاص الشيخ المفيد: ص70.
[8] بحار الأنوار للمجلسي: ج22، ص342.
[9] شرح نهج البلاغة: ج6.
[10] خلاصة الأقوال: ص236.
[11] مستدرك علم رجال الحديث: ج6، ص374.
[12] بحار الأنوارللمجلسي: ج33، ص561.
[13] الغارات للثقفي: ج2، ص757.
[14] الغارات للثقفي: ج1، ص287.
[15] نهج البلاغة: ص98.
[16] نهج البلاغة: ص408.
[17] بحار الأنوار: ج33، ص566.