بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خاتم الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.
واقعة الغدير:
أجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخروج إلى الحج في سنة عشر من مهاجره، وأذن في الناس بذلك، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به في حجته تلك التي يقال عليها حجة الوداع، وحجة الإسلام، وحجة البلاغ، وحجة الكمال، وحجة التمام ولم يحج غيرها منذ هاجر إلى أن رحل الى الرفيق الأعلى. [وكان] ذلك يوم السبت لخمس ليال أو ست بقين من ذي القعدة، وأخرج معه نساءه كلهن في الهوادج، وسار معه أهل بيته، وعامة المهاجرين والأنصار، ومن شاء الله من قبائل العرب وأفناء الناس، وقد قيل: خرج معه تسعون ألفا، وقيل: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وقيل أكثر من ذلك، وهذه عدة من خرج معه، وأما الذين حجوا معه فأكثر إذ يضم الى هذا العدد المقيمون في مكة، من ذلك كالمقيمين بمكة والذين أتوا من اليمن مع علي ( أمير المؤمنين(عليه السلام) ) وأبي موسى، وغيرهم، فلما قضى مناسكه وانصرف راجعا إلى المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورات ووصل إلى غدير خم القريبة من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين، وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة نزل إليه جبرئيل الأمين(عليه السلام) عن الله تعالى بقوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)،[1] وأمره أن يقيم عليا(عليه السلام) علما للناس ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد، وكان أوائل القوم قريبا من الجحفة فأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن يُرَدَّ من تقدم منهم ويُحبَسَ من تأخر عنهم في ذلك المكان، ثم نص على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وخلافته من بعده،
هل حديث الغدير متواتر:
هناك من يحاول حجب الحقيقة، وإطفاء نور الله، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)،[2] ومن ضمن هذه المحاولات محاولة إخفاء أو التشكيك لا أقل في النص على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام). ولما كان حديث الغدير من أدلة الإمامة، لذا حاولوا إبعاد دلالة هذا الحديث عليها، فقد أثاروا حوله عدة من الإشكالات، منها، محاولتهم إثبات عدم تواتر حديث الغدير، وذلك لان الإمامة من اصول الدين، وما هو من اصول الدين لا يثبت إلا بالأخبار المتواترة والأدلة القطعية، فإذا لم يثبت تواتر حديث الغدير يكون من الأحاديث الظنية والحديث الظني لا يثبت أصلا من اصول الدين.
ما هو الخبر المتواتر:
عرف علماء الحديث الخبر المتواتر: بأنه ما بلغت رواته في الكثرة مبلغا أحالت العادة تواطئهم على الكذب واستمر ذلك الوصف في جميع الطبقات، حيث يتعدد بأن يرويه قوم وهكذا الى الأول.
أنواع التواتر:
والخبر المتواتر يكون على أقسام، فمرة يكون التواتر تواترا لفظيا، وهو الذي كثرت رواته بحيث يفيد العلم بصدق الخبر مع اتحاد اللفظ في جميع الطرق، ومن أمثلته حديث الثقلين. وأخرى يكون التواتر معنويا، وهو ما تعددت ألفاظ المخبرين في خبرهم، ولكن اشتمل كل منها على معنى مشترك بينها، وحصل العلم بالقدر المشترك بينها بسبب كثرة الأخبار، وأمثلتها الأخبار التي دلت على شجاعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
تواتر حديث الغدير:
صرح علماؤنا بتواتر حديث الغدير، قال الاميني في كتابه الغدير، ج1: وحديث الغدير متواتر، رواته من طرق السنة من الصحابة 110 راو، ومن التابعين 84، و360 من مشاهير علماء المسلمين ومؤلفيهم.
وهذا كاف لنا ولا نحتاج لمزيد، لكن نذكر تصريح كبار أئمة وعلماء العامة، لا لقصور في أدلتنا، كيف وقد أخذناها من المعين الصافي، ولكن لإتمام الحجة وإلزامهم بما في كتبهم المعتبرة عندهم. فقد صرح أئمتهم بتواتر حديث الغدير، أمثال الذهبي -المعروف بتعصبه ضد أهل البيت- فقد قال في تذكرة الحفاظ ج2، قلت: رأيت مجلدا من طرق الحديث لابن جرير فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق. وكذلك ابن كثير في تاريخه ج11، وابن الجزري، والسيوطي، والكتاني، والزبيدي، والمتقي الهندي، والشيخ علي القاري، وغيرهم.
ومن هذا العرض السريع لما حصل يوم الغدير نجد أن الحدث - بمضمونه ومقدماته ونتائجه- من أعظم الأحداث الإسلامية بعد أصل البعثة النبوية الشريفة، إذ انه يؤسس لمرحلة ما بعد رحيل المشرع الأكرم الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهي المرحلة التي يخاف على الرسالة أن تذوب وتحرف فلابد من ضامن لاستمرارها وسلامتها من التغيير والتبديل، ولكنا نجد أن المسلمين لم يتعاملوا مع هذا الحدث كما ينبغي من الأهمية منذ صدر الإسلام ولحد الآن، ومروا عليه مرور الكرام، وكأنه لا يعني أحدا وليس له أي تداعيات على حياتهم. وبنظرة سريعة لما حدث بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله) نعرف السبب وراء هذا التجاهل والتعمية، إذ أن سير الأحداث بعيدا عما رسمه لهم نبيهم الكريم(صلى الله عليه وآله) لا يفضحها لا حديث الغدير وأمثاله مما يبين النص على أمير المؤمنين (عليه السلام) وأحقيته بالأمر من غيره. إذ أن نشر هذه الأحاديث لا يتناسب مع ما هم فيه من تضييع حق الخليفة الحقيقي، ومن ثم لا ينسجم مع هدفهم من إخفاء هذا الأمر على عامة الناس، ولذا نجد أن أمير المؤمنين (عليه السلام) يناشد الحاضرين ممن سمع الأحاديث التي تنص على أحقيته بالأمر وتبين أمر السماء في تعيين الخليفة من بعد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).
كتمان السنة النبوية من أساليب التعتيم:
هذا وكان من أهم الأساليب التي اتبعتها السلطة الحاكمة للتعتيم والتعمية على الأحاديث التي لا تصب في مصلحتهم السياسية، والتي يشم منها رائحة لا تحبذها أنوفهم، من حيث الإشارة الى الخليفة الحقيقي وأحقيته بالأمر وذكر فضائله، الى غير ذلك، كالأحاديث التي تشير الى ما سيحدث بعد النبي (صلى الله عليه وآله) من الانقلاب على الأعقاب وغير ذلك. كان من أهم الأساليب هو التعتيم على الأحاديث النبوية وكتمانها بل وإتلافها وترهيب الصحابة من أن يتحدثوا بها للناس أو ينشروها في أنديتهم، وكان من المبررات لذلك هو الخوف من تداولها على القران الكريم لئلا يهجر ويترك الناس قراءته، وقد غاب عنهم أن الأحاديث النبوية مليئة بما يحث على قراءته والتدبر فيه وحفظه. وكان لهذا العمل المنظم غير واحد من الأساليب، منها، رمي النبي (صلى الله عليه وآله) بعدم العصمة، وانه بشر كسائر الناس يخضع في تصرفاته لحلة الغضب والرضا. وهناك العديد من الشواهد على ذلك، منها قضية نهي قريش عبد الله بن العاص عن كتابة ما يسمعه من النبي (صلى الله عليه وآله)، بقولهم: انه بشر يتكلم في الغضب والرضا. ومنها، منع التحدث والرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله)، في عهد أبي بكر وعمر، بل وصل الأمر الى إحراق أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله)، فقد قالت عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانت خمسمائة حديث...فلما أصبح قال أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فدعا بنار فحرقها.(الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج1). وبطبيعة الحال أن يكون حظ حديث الغدير الأوفى من ذلك، لأنه يمثل الاتجاه المعاكس للسلطة، ولطموح قريش، فقلما كان يذكر، وإذا ذُكر ذُكر عابرا، ومن دون توضيح وتفصيل يوفيه حقه.
لماذا التعتيم على حديث الغدير:
يقول أحد العلماء: إن الهدف من ذلك باختصار ووضوح هو حجب الأحاديث والروايات التي صدرت من قِبل النبي (صلى الله عليه وآله) بحق أهل البيت (عليهم السلام)، لئلا يعترض أحد ويقول أن هؤلاء هم المعينون من قِبل النبي (صلى الله عليه وآله) لقيادة الأمة.
إزاحة الظلمة:
وقد انبرى أهل البيت (عليهم السلام) بنشر هذه الأحاديث بين الناس، لاسيما الأحاديث التي تبين فضلهم وأحقيتهم ليتناقلها الناس، وتتم الحجة عليهم بمعرفة الحق وأهله، وهو الدور الذي ندبهم الله تعالى له، والذي لا يتوقف على تسلمهم للخلافة السياسية، فهم (عليهم السلام) أئمة المسلمين وتناط بهم حماية الدين وبيان أحكامه، فها هي سيدة نساء العالمين (عليها السلام) تحتج على القوم بحديث الغدير.
احتجاج الزهراء (عليه السلام):
قال شمس الدين أبو الخير الجزري الدمشقي المقري الشافعي المتوفى في 833 في كتابه (أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب): فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه[واله] وسلم قالت: (أنسيتم قول رسول الله صلى الله عليه[واله] وسلم يوم غدير خم، من كنت مولاه فعلي مولاه؟ وقوله صلى الله عليه [واله] وسلم: أنت مني بمنزلة هارون من موسى عليهما السلام).
مناشدات أمير المؤمنين (عليه السلام):
1ـ مناشدته (عليه السلام) يوم الشورى: عن عامر بن واثلة قال: كنت على الباب يوم الشورى مع علي عليه السلام في البيت وسمعته يقول لهم لأحتجن عليكم بما لا يستطيع عربيكم ولا عجميكم تغيير ذلك ثم قال: (أنشدكم الله أيها النفر جميعا أفيكم أحد وحد الله قبلي؟ قالوا: لا [الى ان] قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه[واله] وسلم): من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، ليبلغ الشاهد الغايب غيري؟ قالوا: اللهم لا....)،كما وأخرجه الحمويني في فرايد السمطين في الباب الثامن والخمسين.
2ـ مناشدته (عليه السلام) يوم الرحبة سنة35: روى ابن الأثير في أسد الغابة ج 3 ص 307 وج5 ص205 عن الحافظ ابن عقدة... عن الأصبغ قال: (نشد علي الناس في الرحبة من سمع النبي صلى الله عليه[واله] وسلم يوم غدير خم ما قال إلا قام؟ ولا يقوم إلا من سمع رسول الله يقول، فقام بضعة عشر رجلا فيهم أبو أيوب الأنصاري... فقالوا: نشهد انا سمعنا رسول الله صلى الله عليه[واله] وسلم يقول: ألا من كنت مولا فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه).
نظرة في معاني المولى:
أن شيئا من معاني المولى المنتهية إلى سبعة وعشرين معنى لا يمكن إرادته في الحديث إلا ما يطابقهما من المعاني ألا؟ وهي:1 - الرب 2- العم 3 - ابن العم 4 - الابن 5 - ابن الأخت 6 - المعتق 7 - المعتق 8 - العبد 9 - المالك 10 – التابع 11 - المنعم عليه 12 - الشريك 13 - الحليف 14 - الصاحب 15 - الجار16 - النزيل 17 - الصهر 18 - القريب 19 - المنعم 20 - الفقيد21 - الولي 22 - الأولى بالشيء 23 - السيد غير المالك والمعتق 24 – المحب 25 - الناصر 26 - المتصرف في الأمر 27 - المتولي في الأمر. فالمعنى الأولى يلزم من إرادته الكفر إذ لا رب للعالمين سوى الله. وأما الثاني والثالث إلى الرابع عشر فيلزم من إرادة شيء منها في الحديث الكذب. وبعض منها كالصاحب والجار والنزيل فلا يمكن شيء منها لسخافتها، فيكون استعمال اللفظ فيها خاليا من الحكمة والمناسبة، وذلك بملاحظة جو الرواية وسياقها المكاني والزماني، هذا مضافا الى سياقها اللغوي. أما إن لفظ مولى يراد به لغة الأولى، أو إنه أحد معانيه، فناهيك من البرهنة عليه ما نجده في كلمات المفسرين المحدثين من تفسير قوله تعالى في سورة الحديد: (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). الحديد: 15. فمنهم من حصر التفسير بأنها أولى بكم، ومنهم من جعله أحد المعاني في الآية، فمن الفريق الأول: ابن عباس، والكلبي، والفراء (النحوي)، والاخفش وغيرهم بالعشرات. ومن الفريق الثاني: أبو إسحاق أحمد الثعلبي المتوفى 427. الزمخشري المتوفى 538. وغيرهما الكثير، ولولا أن هؤلاء وهم أئمة العربية وبواقع اللغة عرفوا أن هذا المعنى من معاني اللفظ اللغوية لما صح لهم تفسيره.
قال الاميني في الغدير: إذن فليس للمولى إلا معنى واحد وهو الأولى بالشيء وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في كل من موارده، فالاشتراك معنوي وهو أولى من الاشتراك اللفظي المستدعي لأوضاع كثيرة غير معلومة بنص ثابت والمنفية بالأصل المحكم، وقد سبقنا إلى بعض هذه النظرية شمس الدين ابن البطريق في العمدة ص 56 وهو أحد أعلام الطائفة في القرن السادس.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.