غزوة بني قريضة

بنو قريظة: كان في المدينة ثلاث طوائف معروفة من اليهود، وهم: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وكانت هذه الطوائف قد عاهدت النبي(صلى الله عليه وآله) على أن لا تعين عدوا له ولا تتجسّس لذلك العدو،  وأن  يعيشوا   مع   المسلمين    بسلام، وجاءت يهود قريظة، والنضير، وقينقاع، وطلبوا الهدنة من رسول الله(صلى الله عليه وآله)،
(فكتب لهم بذلك، على أن لا يعينوا عليه أحداً، ولا يتعرضوا لأحد من أصحابه بلسان، ولا يد، ولا بسلاح، ولا بكراع، في السر، ولا في العلانية، لا بليل ولا بنهار، فإن فعلوا فرسول الله(صلى الله عليه وآله) في حل من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وأخذ أموالهم، وكتب لكل قبيلة كتاباً على حدة، وكان الذي وُلِّي أمر قريظة كعب بن أسد، والذي تولى أمر بني النضير حُييّ بن أخطب، والذي وُلِّي أمر بني قينقاع مخيريق وكان أكثرهم مالا وحدائق)[1].

إلا أن (بني قينقاع) قد نقضوا عهدهم وكانوا أول اليهود الذين نقضوا عهدهم مع النبي(صلى الله عليه وآله)، في السنة الثانية للهجرة، وكانوا صاغة ولهم سوق الذهب قرب المدينة، فأجلاهم(صلى الله عليه وآله) عن المدينة وطُردوا إلى خارجها، فذهبوا إلى أذرعات الشام، ونقض بنو النضير عهدهم في السنة الرابعة للهجرة بأعذار شتى، وصمموا على مواجهة النبي(صلى الله عليه وآله) وانهارت مقاومتهم في النهاية، وذهب بعضهم إلى خيبر، وبعضهم الآخر إلى الشام[2]، بناء على هذا فإن (بني قريظة) كانوا آخر من بقي في المدينة إلى السنة الخامسة للهجرة حيث وقعت غزوة الأحزاب، فإنهم نقضوا عهدهم في هذه المعركة، واتصلوا بمشركي العرب، وشهروا السيوف بوجه المسلمين، وحينما نقرأ التاريخ، فإن ما يلفت النظر هو تكرر الغدر من اليهود، واستمرارهم في نقض العهود والمواثيق، مرة بعد أخرى، كما كان الحال بالنسبة لبني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، ولعل هذا أمر طبيعي بالنسبة إلى قوم يَزِنون الأمور بموازين الربح والخسارة في الدنيا، فإن مَن كان كذلك لا يلتزم بالصدق مثلاً لأجل أن له قيمة أخلاقية أو إنسانية، أو لأن فيه رضا الله سبحانه وتعالى وإنما يلتزم به لأنه يجلب له نفعاً دنيوياً ملموساً، أو يدفع عنه ضرراً كذلك. وبدون ذلك، فإنه لا يجد مبرراً ولا دافعاً للالتزام به، بل هو حين يلتزم بصدق لا يشعر بنفعه الدنيوي يجد نفسه متناقضاً مع مبدئه، ومع منطلقاته في التفكير وفي العمل، التي رضيها لنفسه.

ونجد في مقابل ذلك التزاماً تاماً من قبل النبي(صلى الله عليه وآله) بالعهود والمواثيق المعقودة، لذا فإن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله(صلى الله عليه وآله) بأن ينبذ مثل هذه الاتفاقيات ويعلن الحرب على هؤلاء المتقلبين النفعيين. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾[3].

بعد انتهاء غزوة الأحزاب والتراجع المشين والمخزي لقريش وغطفان وسائر قبائل العرب عن المدينة، فإن النبي(صلى الله عليه وآله) طبقا للروايات الإسلامية عاد إلى منزله وخلع لامة الحرب فنزل عليه جبرئيل يبلغه أمر الله بالمسير نحو بني قريظة وإنهاء أمرهم وكما سيأتي تفصيل ذلك.

لم تكن هناك فرصة لتصفية الحساب مع بني قريظة أفضل من هذه الفرصة، حيث كان المسلمون في حرارة الانتصار، وبنو قريظة يعيشون لوعة الهزيمة المرة، وقد سيطر عليهم الرعب الشديد، وكان حلفاؤهم من قبائل العرب متعبين منهكي القوى خائري العزائم، وهم في طريقهم إلى ديارهم يجرون أذيال الخيبة، ولم يكن هناك من يحميهم ويدافع عنهم، هنا نادى مناد من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأن توجهوا إلى بني قريظة قبل أن تُصلُّوا العصر، فاستعد المسلمون بسرعة وتهيئوا للمسير إلى الحرب، وما كادت الشمس تغرب إلا وكانت حصون بني قريظة المحكمة محاصرة تماماً.

أين يسكن بنو قريظة:

وكان بنو قريظة يسكنون جنوبي المدينة وقد نزلوا بالعالية على وادي مهزور ولهم فيها بساتين، شرقي مسجد قباء، ومسجد الشمس (مسجد الفضيخ)، وذلك حيث يقع مسجد بني قريظة، في الحرة الشرقية، المعروفة بحرة واقم، وتسمى حرة بني قريظة أيضاً، لأنهم كانوا بطرفها القبلي.

أسباب الغزوة:

إن القرآن الكريم يشهد بأن الدافع الأساس لهذه الحرب هو دعم يهود بني قريظة لمشركي العرب ومساندتهم في حرب الأحزاب، لأنه يقول: الذين ظاهروهم، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِن أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾[4]، إضافة إلى أن اليهود في المدينة كانوا يُعتبرون الطابور الخامس لأعداء الإسلام، وكانوا مجدين في الإعلام المضاد للإسلام، ويغتنمون كل فرصة مناسبة للبطش بالمسلمين والفتك بهم.

كما أن اليهود يعتقدون: أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، ومعنى ذلك هو: أن دعوة محمد(صلى الله عليه وآله) سوف تصبح خطراً أكيداً على امتيازهم هذا الذي يرون فيه مبرر وجودهم، ورمز كل عزتهم، وخلاصة مجدهم، فكانوا يجدون أنفسهم ملزمين بإضعاف أمر هذه الدعوة، وإسقاطها، بقدر ما هم مكلفون بالحفاظ على حياتهم ووجودهم، وكل خصائصهم. وهم معنيون أكثر من أي فريق آخر بذلك ؛ لأن خسارتهم هذه الورقة، وفقدانهم هذا الأمر إنما يعني خسارتهم لكل شيء، ثم إنهم أمعنوا في بغيهم وعداوتهم حين بادروا إلى إظهار الكلام القبيح في حق رسول الله(صلى الله عليه وآله)، رغم أن المفروض بالمذنب والمعتدي والناكث للعهود أن يستحي من نفسه، وأن يظهر الندم على ما بدر منه.

اليهود تبغض علياً(عليه السلام):

كانت اليهود تبغض علياً(عليه السلام) وكان سبب حقدهم عليه(عليه السلام) والدعاء عليه، هو ما فعله بإخوانهم من بني النضير وبني قينقاع، يضاف إلى ذلك: رؤيتهم آمالهم تتبخر على يديه، بما سجله من نصر مؤزر على أهل الشرك، بقتل أعظم فرسانهم في الخندق، بالإضافة إلى ما فعله فيهم في أحد وبدر قبل ذلك، ثم هم يتوقعون أن يواجهوا مصيرهم الأسود على يديه المباركتين، ولا بد أنهم قد لاحظوا: أن سائر من كان مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يكن يتمتع بمثل ما تمتع به علي(عليه السلام) من القرب من النبي(صلى الله عليه وآله) والشجاعة الظاهرة والإخلاص والتفاني في نصرة النبي(صلى الله عليه وآله)، بل ربما كان أثر بعضهم سلبياً وخطيراً على الإسلام وعلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) في أحيان كثيرة.

فعلي(عليه السلام) هو المحور، وهو الأساس بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله). ويتضح ذلك من خلال ما ذكره التاريخ من الكلام الذي دار بين الوصي(عليه السلام) وأحد كبار زعماء اليهود، قال العاملي في الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام): (إن حُييّ بن أخطب أقيم للقتل بين يدي أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يقول: قتلة شريفة بيد شريف، فقال له علي(عليه السلام): إن خيار الناس يقتلون شرارهم، وشرار الناس يقتلون خيارهم، فالويل لمن قتله الخيار الأشراف، والسعادة لمن قتله الأراذل الكفار. فقال: صدقت)[5].

الأمر الإلهي:

قال الشيخ الطبرسي: (وأصبح رسول الله(صلى الله عليه وآله) (بعد غزوة الخندق) بالمسلمين حتى دخل المدينة، فضربت ابنته فاطمةJ غسولاً حتى تغسل رأسه، إذ أتاه جبرئيل على بغلة معتجراً بعمامة بيضاء، عليه قطيفة من إستبرق، معلق عليها الدر والياقوت عليه الغبار، فقام رسول(صلى الله عليه وآله) فمسح الغبار عن وجهه، فقال له جبرئيل: رحمك ربك وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء! ما زلت أتبعهم حتى بلغتُ الروحاء!

ثم قال جبرئيل: إنهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب، فوالله لأدقنهم دق البيضة على الصخرة، فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) علياً(عليه السلام) فقال:(قدّم راية المهاجرين إلى بني قريظة) وقال: (عزمت عليكم أن لا تصلّوا العصر إلا في بني قريظة)، فأقبل علي(عليه السلام) ومعه المهاجرون وبنو عبد الأشهل وبنو النجار كلها لم يتخلف عنه منهم أحد، وجعل النبي(صلى الله عليه وآله) يرسل إليه الرجال، فما صلى بعضهم العصر إلا بعد العشاء)[6].

قال الشيخ المفيد: (قال عليّ: سرت حتى دنوت من سورهم فأشرفوا عليّ، فلما رأوني صاح صائح منهم: قد جاءكم قاتل عمرو، وقال آخر: قد أقبل عليكم قاتل عمرو وجعل بعضهم يصيح ببعض ويقولون ذلك، وألقى الله في قلوبهم الرعب، حتى ركزت الراية في أصل الحصن)[7].

فأشرف اليهود على الإمام(عليه السلام) وسبُّوه، وقالوا: فعل الله بك وبابن عمك، وهو واقف لا يجيبهم، فلما أقبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) والمسلمون حوله تلقاه أمير المؤمنين(عليه السلام) وقال: لا تأتهم يا رسول الله جعلني الله فداك، فإن الله سيجزيهمn، فعرف رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنهم قد شتموه، فقال: (أما إنهم لو رأوني ما قالوا شيئاً مما سمعت)[8].

فحاصرهم النبي(صلى الله عليه وآله) حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حييّ بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما عاهده عليه، وأيقنوا أنه(صلى الله عليه وآله) غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، إلا أنهم أخذوا بالمراوغة والتسويف فتباطؤا في التسليم والنزول على حكم النبي(صلى الله عليه وآله) فصاح بهم علي بن أبي طالب(عليه السلام) فخافوا وعجزوا عن المواجهة.

قال الحميري: (حدثني من أثق به من أهل العلم أن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: (يا كتيبة الإيمان! وتقدم وقال: (والله لأذوقن ما ذاق حمزة، أو لأفتحن حصنهم)، فقالوا: يا محمد ننزل على حكم سعد)[9].

وكان سعد أصاب أكحله نبلة في الأحزاب فقال: (اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لحربهم، وإن كنت دفعتها فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة)[10].

قال الإمام الصادق(عليه السلام): (فحكم فيهم يعني سعداً بقتل الرجال (المحاربين) وسبي الذراري والنساء وقسمة الأموال، وأن يجعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): (لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبعة أرقعة)[11]، فقتل منهم أربعمائة وخمسين رجلاً، وقسم الأموال واسترق الذراري.

(وبعد أن انتهى أمر بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ ودام نزفه حتى مات(رحمه الله) شهيداً، فكرمه الرسول(صلى الله عليه وآله) مزيد تكريم)[12].

مدة الحصار:

حاصرهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) خمساً وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ. روى السيد محسن الأمين: سار إليهم(صلى الله عليه وآله) في المسلمين، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة، فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، وقيل خمسة عشر يوماً[13].

فكروا ولكن:

كان بنو قريظة يعرفون جدية النبي(صلى الله عليه وآله) في محاصرته لهم، فأرسلوا أحد زعمائهم وهو شأس (نباش) بن قيس لمفاوضته فكلم رسول الله(صلى الله عليه وآله) ساعة وقال: يا محمد ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير، لك الأموال والحلقة (السلاح) وتحقن دماءنا، ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري ولنا ما حملت الإبل إلا الحلقة. فأبى رسول(صلى الله عليه وآله)، فقالوا: فتحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذرية ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل.

فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لا. إلا أن تنزلوا على حكمي. فرجع نباش إلى أصحابه بمقالة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقال كعب بن أسد: يا معشر بني قريظة: والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي الله وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب، حيث لم يكن نبياً من بني إسرائيل، فهو حيث جعله الله ! ولقد كنت كارهاً لنقض العهد والعقد، ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس يعني حي بن أخطب علينا وعلى قومه، وقومه كانوا أسوأ منا! لا يستبقي محمد رجلاً واحداً إلا من تبعه، أتذكرون ما قال لكم ابن حواس حين قدم عليكم فقال: تركت الخمر والخمير والتأمير، وجئت إلى السقاء والتمر والشعير؟! قالوا: وما ذلك؟ قال: يخرج من هذه القرية نبي، فإن خرج وأنا حي اتبعته ونصرته، وإن خرج بعدي فإياكم أن تخدعوا عنه، فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر. قال كعب: فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به، فنأمن على دمائنا ونسائنا وأموالنا، فنكون بمنزلة من معه. قالوا: لا نكون تبعاً لغيرنا، نحن أهل الكتاب والنبوة ونكون تبعاً لغيرنا؟! فجعل كعب يرد عليهم الكلام بالنصيحة لهم. قالوا: لا نفارق التوراة ولا ندع ما كنا عليه من أمر موسى. قال: فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج في أيدينا السيوف إلى محمد وأصحابه فإن قتلنا قتلنا وما وراءنا أمر نهتم به، وإن ظفرنا فلعمري لنتخذن النساء والأبناء! فتضاحك حيي بن أخطب ثم قال: ما ذنب هؤلاء المساكين؟! وقالت رؤساء اليهود: الزبير بن باطا وذووه: ما في العيش خير بعد هؤلاء. قال: فواحدة قد بقيت من الرأي لم يبق غيرها، فإن لم تقبلوها فأنتم بنو استها. قالوا: وما هي؟ قال: الليلة السبت، وبالحري أن يكون محمد وأصحابه آمنين لنا فيها أن نقاتله، فنخرج فلعلنا أن نصيب منهم غرة. قالوا: نفسد سبتنا، وقد عرفت ما أصابنا فيه! قال حي: قد دعوتك إلى هذا وقريش وغطفان حضور فأبيت أن تكسر السبت، فإن أطاعتني اليهود فعلوا. فصاحت اليهود: لا نكسر السبت! قال نباش بن قيس: وكيف نصيب منهم غرة، وأنت ترى أن أمرهم كل يوم يشتد! كانوا أول ما يحاصروننا إنما يقاتلون بالنهار ويرجعون الليل فكان هذا لك قولاً لو بيتناهم. فهم الآن يبيتون الليل ويظلون النهار، فأي غرة نصيب منهم؟! فاختلفوا وسقط في أيديهم وندموا على ما صنعوا[14].

طريقة الرمز في نقل المعلومات الحساسة:

من الواضح أن سنة النبي(صلى الله عليه وآله) -القولية والفعلية والتقريرية- واحدة من مصادر التشريع الإسلامي التي يعتمدها ويأخذ عنها العلماء، كيف لا وهو القائد الإلهي المعصوم ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾[15].

فنلاحظ ان النبي(صلى الله عليه وآله) كان يستخدم الرموز السرية للتخاطب واستلام المعلومات فيما بينه وبين من اختارهم لمهمات خاصة، وقد ذكرت النصوص التاريخية ذلك، فنجده(صلى الله عليه وآله) (قد طلب من رسله إلى بني قريظة: أن يستعملوا طريقة الرمز في تأدية المعلومات إليه، إذا كانت تلك المعلومات ذات طابع خاص يميزها بالخطورة والحساسية، وكان للجهر بها أثر سلبي على المعنويات. كما أن ذلك يفرض أن يكون الذين يتم اختيارهم لمهمات من هذا القبيل لديهم المؤهلات الكافية لاختيار أسلوب الرمز المناسب مع قدرتهم على تصنيف المعلومات نفسها وفقاً للخطة التي ترسمها القيادة)[16].

وهذا الشيء تعمل به القوات العسكرية إلى هذا العصر، ومن هذا الموقف وغيره تتجلى عظمة الإسلام وعظمة قائد الإسلام(صلى الله عليه وآله) في الحنكة والقيادة العسكرية وغيرها، لذا فإنه(صلى الله عليه وآله) يُعد رائد وباني الحضارة الإنسانية.

وسام الفتح:

نلاحظ أن وسام الفتح في هذه المعركة هو عبارة عن بشارة للعالمين عامة، وللأمة الإسلامية بصورة خاصة، بشارة تفيض رحمة وبركة، ومُعبدة للطريق، ومُجلية للبصائر، ومُطمئنة للقلوب. فبعد أن حسم المعركة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وجندل أبطال اليهود في الميدان. أعلن النبي(صلى الله عليه وآله) تلك الوصية الخالدة والتي تتضمن تعيين وتنصيب الخليفة من بعده(صلى الله عليه وآله)، والتي بقيت في أذهان المسلمين. وعند محاولة البعض الالتفاف على النص بعد سنوات صدع بها الصحابي خالد بن سعيد بن العاص الأموي في مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، حيث يحدثنا التاريخ: (أن جماعة من الصحابة اعترضوا على أبي بكر على إقدامه على غصب الخلافة من علي(عليه السلام) بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله). وكان أول من تكلم منهم خالد بن سعيد بن العاص الأموي، فقال له: اتق الله يا أبا بكر فقد علمت أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال ونحن محتوشوه[17] يوم بني قريظة حين فتح الله له باب النصر وقد قتل علي بن أبي طالب(عليه السلام) يومئذ عدة من صناديد رجالهم وأولي البأس والنجدة منهم: يا معاشر المهاجرين والأنصار إني أوصيكم بوصية فاحفظوها ومودعكم أمرا فاحفظوه، ألا إن علي بن أبي طالب أميركم بعدي وخليفتي فيكم بذلك أوصاني ربي، ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم واضطرب عليكم أمر دينكم ووليكم أشراركم، ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون لأمري والعالمون لأمر أمتي من بعدي اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي فاحشرهم في زمرتي واجعل لهم نصيبا من مرافقتي يدركون به نور الآخرة، اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض)[18].

إشارة وإيقاظ:

إن النبي الكريم(صلى الله عليه وآله) قد حصر عواقب نقض وصيته(صلى الله عليه وآله) في علي(عليه السلام) بأمور ثلاثة، هي:

1- الاختلاف في الأحكام.

2- اضطراب أمر دينهم عليهم.

3- أن يليهم شرارهم. بالإضافة إلى عذاب الآخرة والحرمان من الجنة.

وهي أمور لا بد أن يولوها أهمية بالغة، لأنها تضر بسعادتهم الدنيوية، والأخروية على حد سواء. فإن ولاية الأشرار تضر بأمنهم، بجميع وجوهه، وفي مختلف مواقعه، فلا أمن على الأوراح، ولا على الأعراض، ولا على الأموال. كما أنه يفقدهم الثقة بسياسات حكامهم، وبنواياهم، وبصحة تفكيرهم، وسلامة قراراتهم ويفقدهم القدرة على التخطيط للمستقبل، الأمر الذي يجعلهم في مهب الريح، تتقاذفهم رياح الأهواء، وتكون قراراتهم مرتجلة، وعشوائية، وغبية، ويكون غيرهم هو الذي يتحكم بمصيرهم، حسبما يحلو له، وبما ينسجم مع ما يراه من مصلحته. وذلك هو الضياع والخسران المبين في الحياة الدنيا.

كما أن إبعاد من نصبه الله ولياً وحاكماً وإماماً عن موقعه الطبيعي، يؤدي بهم إلى الاختلاف في الأحكام، لأن الناس إذا تركوا إمامهم صاروا مثل غنم غاب عنها راعيها. ولن يجديهم نفعاً لجوؤهم إلى أناس عاديين مثلهم، فإنهم سوف لا يهتدون إلى كثير من الأحكام.

 


[1]     إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي: ج1، ص158، وبحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج19، ص110و111.

[2]     الكامل في التاريخ، ابن الأثير: ج2، ص137 - 173.

[3]     سورة الأنفال: آية56 - 58.

[4]     سورة الأحزاب: آية26 - 27.

[5]     الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج4، ص139.

[6]     إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي: ج1، ص194.

[7]     الإرشاد، الشيخ المفيد: ج1، ص109- 110.

[8]     إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي: ج1، ص195.

[9]     السيرة النبوية، الحميري: ج3، ص721.

[10]    مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج1، ص172.

[11]    المصدر السابق.

[12]    راجع الصحيح من سيرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج11، ص263.

[13]    راجع اعيان الشيعة، السيد محسن الأمين: ج1، ص266.

[14] الصحيح من سيرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج12، ص51، المغازي، والواقدي: ج1، ص502.

[15]    سورة النجم: آية3 - 5.

[16]    الصحيح من سيرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج10، ص323.

[17]    أي: محيطون به.

[18]    الاحتجاج، الشيخ الطبرسي: ج1، ص99.