قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ)[1].
سبب النزول:
قيل إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث سرية (هي الحرب الإسلامية التي لم يشترك فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقيل إنها مجموعة من الجيش تتكون من 5 إلى 300 رجل) من المسلمين وأمر عليهم عبد الله ابن جحش الأسدي - وهو ابن عمة النبي (صلى الله عليه وآله) - وذلك قبل بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة وهي أرض بين مكة والطائف - فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في قافلة تجارة لقريش في آخر يوم من جمادي الآخرة، وكانوا يرون أنه من جمادي وهو رجب - من الأشهر الحرم - فاختلف المسلمون أيقتلون الحضرمي ويغنمون ماله، لعدم علمهم بحلول الشهر الحرام، أم يتركونه احتراما لحرمة شهر رجب، وانتهى بهم الأمر أن شدوا على الحضرمي فقتلوه وغنموا ماله، فبلغ ذلك كفار قريش فطفقوا يعيرون المسلمين ويقولون إن محمدا أحل سفك الدماء في الأشهر الحرم، فنزلت الآية الأولى.
ثم نزلت الآية الثانية حين سأل عبد الله بن جحش وأصحابه عما إذا كانوا قد أدركوا أجر المجاهدين في انطلاقتهم أو لا[2].
القتال في الأشهر الحرم:
كما مر بنا في سبب النزول ويشير إلى ذلك السياق أيضا فإن الآية الأولى تتصدى للجواب عن الأسئلة المرتبطة بالجهاد والاستثناءات في هذا الحكم الإلهي فتقول الآية يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ثم تعلن الآية حرمة القتال وأنه من الكبائر قل قتال فيه كبير أي إثم كبير.
وبهذا يمضي القرآن الكريم بجدية السنة الحسنة التي كانت موجودة منذ قديم الأزمان بين العرب الجاهليين بالنسبة إلى تحريم القتال في الأشهر الحرم وهي أربعة أشهر: (رجب، ذي القعدة، ذي الحجة، محرم).
ثم تضيف الآية أن هذا القانون لا يخلوا من الاستثناءات، فلا ينبغي السماح لبعض المجموعات الفاسدة لاستغلال هذا القانون في إشاعة الظلم والفساد، فعلى الرغم من أن الجهاد حرام في هذه الأشهر الحرم، ولكن الصد عن سبيل الله والكفر به وهتك المسجد الحرام وإخراج الساكنين فيه وأمثال ذلك أعظم إثما وجرما عند الله وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله.
احترام الأشهر الحُرُم والمقابلة بالمثل:
كان المشركون على علم بأن الإسلام يحضر الحرب في الأشهر الحُرُم (ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب) خاصة في حرم مكة والمسجد الحرام، وبعبارة أخرى أن الإسلام أمضى هذه السنّة التي كانت موجودة من قبل، فكان نبي الإسلام ملتزم بهذا الحضر، لذلك أرادوا أن يشنُّوا هجوما مباغتا على المسلمين في هذه الأشهر الحُرُم متجاهلين حرمتها ضانين أن المسلمين ممنوعون من المواجهة، وفي هذه الحالة يستطيعون أن يحققوا هدفهم.
فجاء قوله تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ)[3]؛ ليكشف مؤامرة المشركين وتحمّل المسلمين مسؤولية مواجهة العدوان حتى في الأشهر الحُرُم، فالآية الشريفة تبين أن احترام الأشهر الحُرُم ضروري أمام العدو الذي يراعي حرمة هذه الأشهر، أما العدو الذي يهتك هذه الحرمة فلا تجب معه رعاية الاحترام وتجوز محاربته حتى في هذه الأشهر، وامر المسلمون أن يهبوا للجهاد عند اشتعال نار الحرب كي لا تخامر أذهان المشركين فكرة انتهاك حرمة هذه الشهور[4].
الفتنة أكبر من القتل:
ثم تضيف الآية بأن إيجاد الفتنة والسعي في إضلال الناس وحرفهم عن سبيل الله ودينه أعظم من القتل، والفتنة أكبر من القتل لأن القتل ما هو إلا جناية على جسم الإنسان، والفتنة جناية على روح الإنسان وإيمانه، ثم إن الآية تحذّر
المسلمين أن لا يقعوا تحت تأثير الإعلان الجاهلي للمشركين، لأنهم لا يقنعون منكم إلا بترككم لدينكم إن استطاعوا، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا.
فينبغي على هذا الأساس أن تقفوا أمامهم بحزم وقوة ولا تعتنوا بوسوساتهم وأراجيفهم حول الأشهر الحرم، ثم تنذر الآية المسلمين وتحذرهم من الإرتداد عن دين الله ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
فما أشد عقاب المرتد عن الإسلام، لأن ذلك يبطل كلما قدمه الفرد من عمل صالح ويستحق بذلك العذاب الإلهي الأبدي.
ومن الواضح أن الأعمال الصالحة لها آثار طيبة في الدنيا والآخرة، والمرتدون سوف يحرمون من هذه البركات بسبب ارتدادهم، مضافا إلى محو جميع معطيات الإيمان الدنيوية للفرد حيث تنفصل عنه زوجته وتنتقل أمواله إلى ورثته فور ارتداده.
الآية التالية تشير إلى النقطة المقابلة لهذه الطائفة، وهم المؤمنون المجاهدون وتقول: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أجل، فهذه الطائفة التي يتحلّى أفرادها بهذه الصفات الثلاث المهمة (الإيمان والهجرة والجهاد) قد يرتكبون خطأ بسبب جهلهم وعدم اطلاعهم (كما صدر ذلك من عبد الله بن جحش الوارد في سبب النزول) إلا أن الله تعالى يغفر لهم زلتهم بلطفه ورحمته[5].
مجلة بيوت المتقين العدد (68)