إن من المعلوم: أن هذه السورة مدنية، ولكن بعض الذين في قلوبهم زيغ يحاولون ادّعاء أنها من السور المكية، ولعل منشأ ذلك هو البغض والحسد لأهل البيت (عليهم السلام)، الذين نزلت هذه السورة فيهم، لأنَّ نزول السورة في مكة، يبطل ـ بزعمهم ـ الروايات الكثيرة جداً، والمروية بطرق مختلفة عند السنة والشيعة، والتي تؤكد نزولها فيهم(عليهم السلام).
ولكن الله تعالى يقول: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ..)[1].
مستند أهل الزيغ:
لعل أول من ادعى نزول السورة في مكة هو ابن الزبير[2]، الذي كان قد حارب علياً (عليه السلام)، وكان معروفاً بانحرافه عنه، وبغضه له..
أما ما روي من ذلك عن ابن عباس[3]، فيشك في صحته، إذ إن الرواية قد وردت عنه بخلاف ذلك أيضاً.. كما سيأتي.
ثم جاءنا أخيراً من حاول أن يستدل لذلك، ويجمع له المؤيدات والشواهد، فهو يقول: «في بعض الروايات: أن هذه السورة مدنية.. ولكنها مكية، ومكيتها ظاهرة جداً، في موضوعها وفي سياقها، وفي سماتها كلها. لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها.
بل نحن نلمح من سياقها: أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي.
تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة، وصور العذاب الغليظ، كما يشي به توجيه الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى الصبر لحكم ربه، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور، مما كان ينزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة، مع إمهال المشركين، وتثبيت الرسول (صلى الله عليه وآله) على الحق الذي نزل عليه، وعدم الميل إلى ما يدهنون به. كما جاء في سورة القلم، وفي سورة المزمل، وفي سورة المدثر، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة.
واحتمال أن هذه السورة مدنية - في نظرنا - هو احتمال ضعيف جداً، يمكن عدم اعتباره[4].
ونقول:
أولاً: لقد أبطل السيد الطباطبائي (رحمه الله) هذه المزاعم. فقال ما ملخصه: إنَّ صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة، وصور العذاب الغليظ لا تختص بالسور المكية، بل هي موجودة في السور المدنية أيضاً، ـ مثل سورتي الرحمن، والحج ـ بصورة أكثر مما ورد في سورة هل أتى.
ثانياً: وأما ما ذكره من أمر النبي(صلى الله عليه وآله) بالصبر، وأن لا يطيع آثماً أو كفوراً، وأن لا يداهنهم، وأن يثبت على ما نزل عليه من الحق، فهو في نهايات هذه السورة، فلتكن نهاياتها مكية - لو صح أن هذا الأمر يوجب مكية الآيات - لأن النزول كان تدريجياً.
ولو سلم أن السورة قد نزلت دفعة واحدة، فإننا نقول: إن الأمر بالصبر لا يختص بالسور المكية، فإنه تعالى يقول في سورة الكهف في الآية 28: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً). وقد روي أن هذه الآية مدنية. وهي متحدة المعنى مع قوله تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)[5]، مع شدة التشابه في السياق في الموردين.
وما كان يلقاه النبي من أذى المنافقين وغيرهم من الجفاة وضعفاء الإيمان، لم يكن بأهون من أذى المشركين بمكة.
ولا دليل أيضاً على انحصار الآثم والكفور في مشركي مكة، بل إن بعض المسلمين كان يكسب الآثام، كما صرحت به الآيات. (انتهى كلام العلامة الطباطبائي)[6].
ثالثاً: إن المعيار في مكية السورة ومدنيتها هو النقل والرواية، لا القياسات والاستحسانات. فإن كان ثمة من رواية تدّعي أنَّ السورة مكية، فلا بد من محاكمتها كرواية، وملاحظة ما فيها من نقاط ضعف وقوة على هذا الأساس...
وعلى كل حال.. فإن ثمة العديد من الأدلة على عدم صحة الرواية التي ذكرت: أن عبد الله بن الزبير قد اعتبر هذه السورة مكية، بالإضافة إلى أن ابن الزبير متهم في ما يرويه، خصوصاً إذا كان في سياق إنكار فضائل علي(عليه السلام)، فإنه هو المحارب لأمير المؤمنين والمعلن بالتنقص له، ولأهل بيته الطاهرين، حتى إنه ترك الصلاة على النبي في أربعين صلاة جمعة، بحجة: أن له(صلى الله عليه وآله) أهيل سوء يخاف أن يتلعوا بأعناقهم، أو نحو ذلك.
وكذلك الحال بالنسبة للرواية بذلك عن ابن عباس، الذي كان في زمنه (صلى الله عليه وآله) صغيراً لا عبرة بما يرويه في ذلك السن.. خصوصاً وأنها معارضة بمثلها عنه، كما سنرى.
رابعاً: لقد روي عن الإمام علي(عليه السلام): أن السورة مدنية[7].
وكذلك روي عن ابن عباس، وعكرمة، والحسن[8].
خامساً: قد ذكرت الروايات الكثيرة المروية من طرق أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم: أن السورة قد نزلت في مناسبة مرض الحسنين (عليهما السلام)، وصيام علي والزهراء، والحسنين (عليهم السلام) ثلاثة أيام، وصدقتهم بطعامهم في هذه الأيام الثلاثة المتوالية. والحسنان (عليهما السلام) إنما ولدا في المدينة كما هو معلوم.
سادساً: إن آيات السورة ذكرت إطعام الطعام للأسير، ولم يكن في مكة أسرى...إلا أن يقال: إن الكلام قد جاء في الآية على سبيل الافتراض، لا على سبيل الحقيقة.
ولكنه احتمال ضعيف يخالف سياق آيات السورة.. كما أنه يخالف الروايات التي تحدثت عن سبب نزولها.
وأما احتمال أن يكون الأسير أسيراً عند قريش، فهو بعيد أيضاً، إذ لم نعرف عن قريش أنها كان لديها أسرى من حروب خاضتها.
سابعاً: وحتى لو كانت هذه السورة مكية، فإن ذلك لا يضر في صحة رواية نزول السورة في أهل البيت (عليهم السلام)، فقد أثبتنا أن السورة كانت تنزل أولاً.. ثم وبعد مضي مدة من الزمن تحصل الأحداث التي ترتبط آيات تلك السورة بها، فينزل جبرئيل بتلك الآيات مرة ثانية[9].
[1] سورة الصف: الآية 8.
[2] الدر المنثور، السيوطي: ج6، ص297 عن ابن مردويه.
[3] المصدر السابق عن النحاس.
[4] في ظلال القرآن، سيد قطب: ج6، ص377.
[5] سورة القلم: الآية 48.
[6] تفسير الميزان، السيد الطباطبائي: ج20، ص135- 136.
[7] (راجع تفسير نور الثقلين: ج5، ص468 وتفسير الميزان: ج20، ص133 كلاهما عن مجمع البيان).
[8] (راجع الدر المنثور: ج6، ص297 عن البيهقي، وابن مردويه، وتفسير الميزان: ج20، ص131 و132 عن الدر المنثور، وعن الإتقان أيضاً عن البيهقي في الدلائل، وعن ابن الضريس).
[9] مختصر مفيد: ج4، ص45 - 83.