العفة صفة المؤمنين

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)[1].

من صفات المؤمنين الفاضلة، والملكات الإنسانية القيمة: العفة، وهي بشكل عام تشمل أنواعا مختلفة من كف النفس، فمنها عفة البطن عن أكل الحرام، وعفة اللسان عن قول الفحش، وهكذا، ومنها أيضاً بل من أهمها: عفة الفرج، بمعنى: اجتناب أي معصية فيما يتعلق بهذه الجارحة، وذلك بترك الانقياد وراء الشهوات الجنسية المحرمة، فهذه العفة تدعو الفرد إلى الاتزان في الاستجابة لميوله الجنسية، وتحفظه من التلوث بالانحرافات المختلفة، فإنه مما لا شك فيه أن الغريزة الجنسية من غرائز الإنسان الشديدة والطاغية، وإن المآسي والمشاكل التي تصيب الفرد من هذا الطريق والميول المكبوتة والرغبات التي لم تلاق استجابة صحيحة تستطيع أن تولد في النفس الإنسانية عقداً عظيمة، وتؤدي إلى مفاسد وانحرافات، وجرائم وخيانات، وفي بعض الأحيان تتسبب في ظهور مرض روحي أو تنتهي إلى الجنون، والكثير من الجرائم الكبيرة سببها هذه الغريزة، ولذا كانت السيطرة عليها وحفظ حدودها من العلامات المهمة للتقوى والورع والإيمان، حيث تقول الآية الشريفة في وصف المؤمنين:
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) أي يحفظونها مما يخالف العفة (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).

إن عبارة: (المحافظة على الفروج) قد تكون إشارة إلى أن فقدان المراقبة المستمرة في هذا المجال تؤدي بالفرد إلى خطر التلوث بالانحرافات الكثيرة، فهي تصف المؤمن بأنه حريص على المحافظة على الفرج من أن يتدنس بالآثام ويتلوث بالمنكرات، وهو تعبير رائع من تعابير القرآن الكريم الذي يصور الفرج بأنه جارحة من جوارح الإنسان الحساسة المعرضة للتلف والتلوث والتي ينبغي للإنسان أن يحافظ عليها، بان لا يستعملها بغير أسلوبها الصحيح وإلا فسوف تصاب بالفساد جراء هذين الأمرين.

 أما عبارة (أزواجهم) فهي تشمل الزوجين الذكر والأنثى، فكل منهما يحفظ فرجه إلا عن زوجه، والزوجة تعمّ الزوجة الدائمة والمؤقتة فإنه يشمل الاثنين، لأن كلا منهما زوجة، وقد ظن البعض أن هذه الآية تنهى عن الزواج المؤقت ولم يلتفتوا إلى هذا المعنى.

والاستثناء الآخر الذي سمحت به الآية الشريفة هو ذات اليمين والتسري بالجواري، فإنه نوع محلل من التمتع الجنسي كان سائدا آنذاك مع شيوع حالة الرق والعبودية، ولكنه انحسر تدريجيا بسبب تشجيع الإسلام على العتق والتثقيف باتجاه تساوي الناس أمام الله تعالى، وكون ما يميزهم هو عملهم فقط دون اللون والعِرق وغيرهما، متلافياً بذلك مشاكل اجتماعية كثيرة كانت مصاحبة لحالة العبودية والرقية التي كانت سائدة في المجتمع.

ويمكن أن يكون قوله تعالى: (غَيْرُ مَلُومِينَ) إشارة إلى الرأي الخاطئ عند المسيحيين الذي أصبح يشكل انحرافا في عقيدتهم، وهو أن أي اتصال جنسي يعتبر فعلا غير لائق بالإنسان وتركه فضيلة له، لذا نرى القساوسة الكاثوليك - نساء ورجالا - ممن طلّق الدنيا يحيون عزابا ويتصورون أن الزواج بأي شكل كان خلافا لمنزلة الإنسان الروحية، إلا أن هذا الاستثناء مع هذا الوصف المؤكد (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) يدل على أن منطق الإسلام يرفض أن يقف الإنسان موقفا سلبيا تماما من هذه الغريزة ويكون كالرهبان والقسّيسين ويسير بخلاف قانون الخلقة، وهو عمل غالبا ما يكون محالا وعلى فرض إمكانه فهو أمر غير منطقي، ولهذا نجد حتى الرهبان - على تبتلهم - لم يستطيعوا حذف هذه الغريزة من حياتهم، وإذا لم يكونوا قد أعلنوا زواجهم بالطريقة الرسمية فإن الكثير منهم ينصرف إلى ارتكاب الفحشاء عند الاختلاء، والفضائح الناتجة من هذا المسلك ليست قليلة وقد كشف المؤرخون المسيحيون مثل (ويل ديورانت في كتاب قصة الحضارة) وغيره النقاب عن ذلك، وعلى كل حال فإن الله تعالى لم يخلق في الإنسان غريزة كجزء من مكوناته المثلى، ثم يعتبرها تُناقض منزلة الإنسان عند، ولذا كان شعار الإسلام: (لا رهبانية في الإسلام).

(فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ) أي المتعدون لحدودهم المتجاوزون للشريعة، فدخل في المنع حرمة وطء الذكران والبهائم والزنا والاستمناء بكل أشكالها، وروي أنّ العرب كانوا يستمنون في الأسفار فنزلت الآية.

إن مسألة الاستجابة للغريزة الجنسية وكيفية إرضاء الميول المتعلقة بها من أهم المسائل العلمية والدينية. ولقد أدلى علماء البشرية على مرّ القرون الطويلة بدلوهم في هذا المضمار فأسسوا نظريات مختلفة حول هذا الموضوع، وقد ارتطم بعضهم بمشكلة الإفراط أو التفريط في أفكاره، وللإسلام نظرته الخاصة في هذه الغريزة القوية، ومنهجه الفريد في الاستجابة لها، وقد استوعب ذلك عشرات التعليمات والوصايا المهمة في كيفية الاتزان في إرضاء الميل الجنسي، والوصول إلى الأسلوب الأمثل الذي يجنب صاحبه الانحراف.

فالشريعة الإسلامية ترى أن الناس مرغمون على إرضاء غرائزهم والاستجابة لميولهم كما ترى النظريات المادية ذلك، مع فارق كبير هو أن النظريات المادية تهدف إلى ضمان الاستقرار المادي للإنسان، ولذلك فإن ترك الإنسان حرا في الاستجابة للغرائز إنما يتحدد بإطار المصالح المادية، والحفاظ على النظام الاجتماعي... في حين أن النظرية الإسلامية تهدف إلى أمرين: أحدهما الحفاظ على النظام في الحياة المادية، والآخر الوصول إلى الكمالات الروحية وإحراز الصفات الإنسانية العليا، وهذا يتطلب من الإنسان أن يُقيّد هوى النفس ويتخلى عن الرغبات اللامشروعة للوصول إلى الكمال الإنساني وبلوغ مرحلة القيم والفضائل.

فإنه مما لا شك فيه أن الغريزة الجنسية تتطلب الاستجابة لها وإرضاءها كسائر الغرائز، وعلى كل فرد أن يُشبع هذه الغريزة وفقاً لقانون الخِلقة، ولكن النقطة الجديرة بالاهتمام هي أن الشهوة يجب أن تكون مسخرة للإنسان، لا أن يكون الإنسان مسخراً لشهوته، فإن الذي ينقاد لرغباته وأهوائه ليس حراً، بل هو عبد ذليل لشهوته، إن الأحرار هم الذين يستطيعون السيطرة على حب المال والجاه والشهوة بقوة الإيمان والعقل، وفي ظل الأخلاق والفضائل، فإن الإنسان أعظم من أن يكون عبداً مطيعاً لشهواته، وأسيرا منقادا لغرائزه.

وبهذه الطريقة فإن الإسلام يخطط لمجتمع يحافظ على غرائزه الفطرية، ولا يؤدي به إلى الانغماس بالفحشاء والفساد الجنسي والمضار الناتجة منه.

وقد ورد في جملة من الروايات الذم الشديد لمن لا يحافظ على عفّته ويصون نفسه عن الانحرافات الجنسية:

منها: عن أمير المؤمنين (عليه السلام): ((أبعد ما يكون العبد من الله، إذا كان همّه فرجه وبطنه)).

ومنها: عن نجم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: ((يا نجم! كلَّكم في الجنّة معنا، إلاّ أنّه ما أقبح بالرّجل منكم أن يدخل الجنّة قد هتك ستره، وبدت عورته! قال: قلت: جعلت فداك، وإنّ ذلك لكائن؟ قال: نعم، إن لم يحفظ فرجه وبطنه)).

ومنها: ما ورد عن النّبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: ((إنّ أوّل ما يدخل به النّار من أمّتي الأجوفان، قالوا: يا رسول الله، وما الأجوفان؟ قال: الفرج والفم، وأكثر ما يدخل به الجنّة تقوى الله، وحسن الخلق)).

ومنها: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((من سَلِم من أمّتي من أربع خصال، فله الجنّة: من الدّخول في الدّنيا، وإتباع الهوى، وشهوة البطن، وشهوة الفرج)).

مجلة بيوت المتقين العدد (6)

 


[1] سورة المؤمنون5- 7.