الإمام المهدي (عليه السلام) والتكامل الإنساني / السيد فاضل الجابري / الحلقة الثانية

ذكرنا في العدد السابق أن الامام المهدي (عجل الله فرجه) هو الذي سوف يحقق غاية كل الرسالات الالهية، وأمنيات الانبياء والاوصياء والمصلحين على طول تاريخ البشري، فهو الذي سوف يملئ الارض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وفي حكومته الزكية سوف يتكامل النوع الانساني، وهذا التكامل الانساني سوف يتجلّى بعدة مستويات:

المستوى الاول: التكامل العلمي:

إذا كانت الحداثة هي إتباع كل أمر حديث ومحاولة الوصول الى أرقى المستويات العلمية والتكنولوجية، فان دولة الامام المهدي(عليه السلام) سوف تكون دولة حداثوية بامتياز، فالإمام (عليه السلام) سوف يأتي للناس بعلوم لم يعهدها ويطوّر العلم الى درجة لا يمكن تخيلها حالياً.

يقول الامام الصادق (عليه السلام): (العِلمُ سَبعَةٌ وعِشرونَ حَرفًا، فَجَميعُ ما جاءَت بِهِ الرُّسُلُ حَرفانِ، فَلَم يَعرِفِ النّاسُ حَتَّى اليَومِ غَيرَ الحَرفَينِ، فَإِذا قامَ القائِمُ (عليه السلام)أخرَجَ الخَمسَةَ وَالعِشرينَ حَرفًا فَبَثَّها فِي النّاسِ، وضَمَّ إلَيهَا الحَرفَينِ حَتّى يَبُثَّها سَبعَةً وعِشرينَ حَرفًا)[1].

طبعا المقصود من الحرف هو وحدة قياس لمستوى العلم، مثل اي وحدة قياسية اخرى. وحينما يبث الامام هذه الدرجات الكثيرة التي تعادل اضعاف ما عند الناس من علم فلا شك بان ذلك سوف يؤدي الى طفرة علمية هائلة جداً.

وهذا التقدم العلمي الذي يصاحب دولة الامام المهدي(عليه السلام) سوف يكون على جميع الاصعدة التي يحتاجها الانسان.

المستوى الثاني: التطور العقلي:

من المؤكّد أن قيمة الانسان بعقله لا بشيء آخر، فبه تميّز عن بقية الموجودات، وهذا العقل بطبيعته عامل فعّال، وقادر على إدراك كل مفردات الواقع، وايصال الانسان الى اعلى المستويات، ولكن بسبب سوء التربية والتعليم والظروف المختلفة يتراجع العقل حتى يصبح الانسان في بعض الاحيان أدنى مستوى من البهيمة، ولذا جاءت الرسل الالهية لأجل ازالة كل المسببات الموجبة لغياب العقل تحت تراب وظلام الجهل والتخلّف، ولذا قال امير المؤمنين (عليه السلام) في علة ارسال الانبياء: (فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ)[2].

فالعقول فيها دفائن أي كنوز مدفونة بسبب العوامل السلبية التي تمرّ على الانسان، فيأتي المشروع الالهي لكي يعيد للإنسان عقله الكامل، وبذلك يستطيع إدراك الواقع بكل تفاصيله فيصل الى غاياته وامنياته.

والامام المهدي (عليه السلام) يبدأ بتنفيذ هذه المهمة على ارض الواقع بشكل عملي، حتى ينطلق الانسان في دولته وهو يملك أكبر سلاح يواجه به الحياة وهو العقل، ولذا يقول الامام الصادق (عليه السلام): (إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ الله يَدَه عَلَى رُؤُوسِ الْعِبَادِ فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ وكَمَلَتْ بِه أَحْلَامُهُمْ)[3].

المستوى الثالث: التكامل الاجتماعي:

   يترتب ويتمخض عن التكامل العلمي والعقلي نوع من التماسك الاجتماعي والوحدة الاجتماعية، لان المجتمع آنذاك سوف يخلو من كل الامراض الاجتماعية المؤدية الى تفكّكه، وانتشار الحقد والحسد والكراهية فيه، فلا جور ولا ظلم في زمانه (عليه السلام)، يصبح الاخ يحب اخيه، والجار لا يحسد جاره، وتسدّ كل عوامل الفساد والانحراف، وهو المعبّر عنه بالمجتمع الصالح الذي سوف يستخلف الارض ويرثها، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾[4]، قال الامام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية: (القائم (عليه السلام) واصحابه)[5]. فالمجتمع الصالح هو المجتمع المؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، المؤدّي للتكاليف الالهية والمتجنب للحرمات السابق بالخيرات العامل للصالحات، وهذه المواصفات كلها تنطبق على مجتمع عصر الظهور المبارك.

المستوى الرابع: التكامل الاقتصادي:

لا شك بان للجانب الاقتصادي والمالي الدور الاساس في رفاهية الانسان وسعادته لتحقيق امنياته وراحته، ومشكلة الفقر والعوز عصفت بالإنسان على طول التاريخ، وجعلت منه سلعة تباع وتشترى، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان الله تعالى جعل في هذه الارض كل الامكانات والخيرات التي يستطيع الانسان- اذا ما استثمرها- ان يعيش افضل الحياة، لان فيها الكفاية وفوق الكفاية، الا ان الانسان اما انه يستأثر بما يخرج منها فيشبع بعض ويجوع آخرون، واما انه يجهل بكيفية الاستفادة منها، وهنا يأتي دور الامام(عليه السلام)، وحكومته الراشدة لكي يستفيد الانسان من كل خيرات الارض، حيث يكون العدل هو السائد، ويتم توزيع الثروة بشكل عادل بحيث لا يكون هناك فقير ابدا، ويتفاضل الناس اقتصاديا ً بأمور زائدة عن الحاجة، بل سوف يرتفع مستوى الادراك بحيث يصبح الانسان لا يأخذ الا بمقدار ما يحتاج اليه.

روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يُقسّم المال صحاحاً فقال رجل: ما صحاحاً؟ قال (صلى الله عليه وآله) بالسويّة بين الناس، ويملأ الله قلوب أمة محمد صلوات الله عليه غنى، ويسعهم عدله حتى يأمر منادياً ينادي يقول: من له في المال حاجة؟

فما يقوم من الناس إلا رجل واحد فيقول: ائت السدّان -يعني الخازن- فقل له: إن المهدي (عليه السلام) يأمرك أن تعطيني مالاً، فيقول له: أُحث، حتى إذا جعله في حجره وأبرزه ندم... الخ)[6] اذن في دولة الامام المهدي (عليه السلام) تطور اقتصادي وثروة كبيرة ورفاه اقتصادي وعدالة اجتماعية عامة لا تدع فقيرا ومحتاجا ابدا.

الخلاصة:

من خلال ما مضى ومن خلال هذه المستويات وغيرها سوف يصبح المجتمع الانساني في زمان وعصر الظهور المقدس مجتمعاً متكاملاً، قد وصل الى غائية خلقته ويصبح النوع البشري خليفة لله في ارضه كما اراده الله تبارك وتعالى.

 

المصدر: مجلة بيوت المتقين / العدد (62) ـ الصفحة: 20 - 21.

 


[1] مختصر بصائر الدرجات: ص١١٧.

[2] نهج البلاغة: ص43.

[3] الكافي: ج١، ص ٢٥.

[4] الأنبياء:١٠٥.

[5] تفسير القمي : 434 - 435 .

[6] دلائل الإمامة: ص ٢٤٩.