هو جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيدة بن ربيعة بن حزام بن غفار الغفاري.
عرف رضوان الله عليه بالزهد والصدق والحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، وله منزلة كبيرة من الفضل إذ كان يعد أول من لقب بالشيعي على عهد النبي(صلى الله عليه وآله) وكان من المشايعين لأمير المؤمنين علي(عليه السلام).
موقفه من الإيمان وثباته على المبدأ:
كان أبو ذر يتعبّد قبل الإسلام، ولم يكن يعبد الأصنام حيث ورد عن ابن سعد في الطبقات عن طريق عبد الله بن الصامت قال لي أبو ذر: (يا بن أخي صليت قبل الإسلام بأربع سنين. قلت له: من كنت تعبد؟ قال: إله السماء، قلت فأين كانت قبلتك؟ قال: حيث وجهني الله عز وجل)[1].
وهو رابع من أسلم من الرجال فأول من أسلم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم أخوه جعفر الطيار، ثم زيد بن حارثة، وكان أبو ذر رحمه الله رابعهم [2].
وكان يتأله في الجاهالية ويقول: لا إله إلا الله، ولا يعبد الأصنام حيث مَرّ عليه رجل من أهل مكة بعد ما أوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال يا أبا ذر إن رجلا بمكة يقول مثل ما تقول: لا إله إلا الله، ويزعم أنه نبي [3].
فكان يقوم عند الشمس فما يزل مصلياً حتى يؤذيه حرها فيخر كأنه خفاء، فكما ورد عنه كان يتوجه حيث وجه [4].
عندما علم أبو ذر بخبر النبي (صلى الله عليه وآله) ودعوته إلى الإسلام جاء إلى مكة فإذا هو بحلقة مجتمعين يشتمون النبي (صلى الله عليه وآله)، فأقبل أبو طالب، فقالوا: كفوا عنه فقد جاء عمه، فتبعه أبو ذر فالتفت إليه فقال: ما حاجتك؟ قال: هذا النبي المبعوث فيكم، قال وما حاجتك إليه؟ قال: أومن به وأصدقه ولا يأمرني بشيء إلا أطعته، فقال تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، ... فلما دخل عليه قال (صلى الله عليه وآله): أنا رسول الله يا أبا ذر انطلق إلى بلادك فإنك تجد ابن عم لك قد مات فخذ ماله وكن بها حتى يظهر أمري، ثم دعاه وقال: كفاك الله هم دنياك وعقباك، فصار أربعين يوما ماء زمزم غسلا له فما اشتهى شيئا آخر وانطلق إلى بلاده فوجده كما قال [5].
نشره للإسلام:
بعد أن أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالرجوع إلى أهله رجع وأخذ بتبليغ الإسلام وبث تعاليمه بين الناس وأسلم الكثير منهم نتيجة ذلك فانتقلوا من عبودية الصنمية إلى عبودية الله الواحد الأحد حتى ظهر أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وبعد ذلك هاجر(رضوان الله عليه) إلى المدينة وآخى النبي (صلى الله عليه وآله) بينه وبين المنذر بن عمرو في المؤاخاة الثانية، وهي مؤاخاة الأنصار مع المهاجرين بعد الهجرة بثمانية أشهر، ثم شهد مشاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان له دور فاعل بعد حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) بامتناعه عن البيعة لأبي بكر وإنكار قيامه مقام النبي (صلى الله عليه وآله) وغصبه للخلافة، فأخذ يجاهر بذكر مناقب أهل البيت (عليهم السلام)، ومثالب أعدائهم، وصبر على المشقة والعناء، فكان رضوان الله تعالى عليه لا تأخذه في الله لومة لائم، ففي لقاء له مع فتى من قريش مرة قال له: (أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فقال: أرقيب أنت عليّ؟ فوالذي نفسي بيده لو وضعتم الصمامة هيهنا، ثم ظننت إني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل أن تحتزوا لأنفذتها)[6].
أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
كان أبو ذر رضوان الله عليه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أينما حل، وله مواقف كثيرة حدثت مع عثمان بن عفان ومعاوية وحواشيهم فأنكر عليهم ما يقومون به من التصرف في مال المسلمين وهنا نذكر بعض المواقف:
لما أعطى عثمان بن عفان مروان بن الحكم والحارث بن الحكم ما أعطى من المال جعل أبو ذر رضوان الله عليه يقول: بشر الكانزين بعذاب أليم، ويتلو قول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[7]، فلما بلغ عثمان خبره أرسل إليه أن ينتهي، فقال رضوان الله عليه: (أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله؟ فوالله، لئن أرضي الله بسخط عثمان، أحب إلي، وخير لي، من أن أسخط الله برضاه)[8].
وهذا الموقف وغيره جعل عثمان بن عفان يتخذ قراره بعدم إبقائه في المدينة ونفيه إلى بلاد أخرى فنُفي إلى الشام، فعندما أرسل إلى الشام أخذ ينكر على معاوية أشياء يفعلها، حتى إن معاوية بعث إليه بثلاث مائة دينار لإسكاته وعدم فضحه أمام الناس، فقال له: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا؟ قبلتها! وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها، وبعث إليه مسلمة الفهري بمائتي دينار، فقال: أما وجدت أهون عليك مني، حين تبعث الي بمال؟ وردَّها)[9].
وكان من أقواله رضوان الله عليه: (والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله، ولا سنة نبيه، والله إني لأرى حقاً يُطفأ، وباطلا يُحيى، وصادقا يكذب، وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثرا عليه)[10].
فلم يسكن لأعداء الله بال، فأخذوا يحذّرون معاوية من وجود أبي ذر فوصله: أن أبا ذر مفسد عليك الشام، فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة، فكتب معاوية إلى عثمان فيه، وأجابه عثمان بكتاب: (أن احمل جندبا إليَّ على أغلظ مركب، وأوعره، فوجَّه به مع من سار به الليل والنهار، وحمله على شارف ـ ناقة مسنّة ـ فليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد)[11].
علمه وحكمه:
كان رضوان الله عليه عالماً حريصاً على العلم، كثير السؤال في طلبه فمما يروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما سُئل عن أبي ذر قال: (وعى علماً وكان شحيحاً حريصاً على دينه حريصاً على العلم وكان يكثر السؤال فيعطي ويمنع، أما إنه قد ملئ له في وعائه حتى امتلأ)[12].
وننقل هنا رواية في علمه وشهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ذلك فعن زرارة قال: كنت قاعداً عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: (يا زرارة أن أبا ذر وعثمان تنازعا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال عثمان: كل مال من ذهب أو فضة يدار ويعلم به ويتجر، ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول، فقال أبو ذر: ما اتجر به أو دير وعمل به، فلا زكاة فيه، وإنما الزكاة فيه إذا كان ركازاً أو كنزاً موضوعاً فإذا حال عليه الحول، ففيه الزكاة، فاختصما في ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: القول ما قال أبو ذر )[13].
ومما نقل عنه (رضوان الله عليه) في هذا المجال لما كتب اليه رجل: (يا أبا ذر أطرفني بشئ من العلم فكتب إليه العلم كثير ولكن إن قدرت أن لا تسئ إلى من تحبه فافعل، قال: فقال له الرجل: وهل رأيت أحداً يسيء إلى من يحبه؟ فقال له: نعم نفسك أحب الأنفس إليك فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها)[14].
مما قيل فيه:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر يعيش وحده، ويموت وحده، ويحشره وحده، ويدخل الجنة وحده)[15].
وقال: (صلى الله عليه وآله) (أبو ذر في أمتي شبيه عيسى بن مريم في زهده وورعه)[16].
سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أبي ذر فقال: ذلك رجل وعى علماً عجز عنه الناس، ثم أوكأ عليه ولم يخرج شيئاً منه) [17] .
قال الإمام الصادق (عليه السلام): دخل أبو ذر على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه جبرئيل فقال جبرئيل (عليه السلام): منْ هذا يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله): أبو ذر قال أما إنه في السماء أعرف منه في الأرض)[18].
دعاؤه في السماء معروف:
قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما هذا الدعاء الذي تدعو به؟ فقد أخبرني جبرئيل (عليه السلام) أن لك دعاء تدعو به، معروفا في السماء، فقال: نعم يا رسول الله أقول: (اللهم إني أسألك الأمن والإيمان بك والتصديق بنبيك والعافية من جميع البلاء والشكر على العافية والغنى عن شرار الناس )[19].
نفيه إلى الربذة:
لما ضاق على عثمان ما يقوم به أبو ذر من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أصدر الأمر بنفيه إلى الربذة وأن لا يكلمه أحد ولا يشيعه، حيث أمر مروان بن الحكم أن يخرج به، فخرج به وتحاماه الناس، إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعقيلاً أخاه، والحسن والحسين (عليهم السلام)، وعمار بن ياسر، فخرجوا معه يشيعونه.
ومما كلم به الإمام علي (عليه السلام) أبا ذر حين تشييعه قائلا: (يا أبا ذر، إنك غضبت لله، فارجُ مَنْ غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وأغناك عما منعوك! وستعلم من الرابح غدا، والأكثر حسدا، ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا، يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك ولو قرضت منها لأمنوك. الأعلام من الصحابة والتابعين)[20] .
وبعد وداع الأحبة بكى أبو ذر (رضوان الله عليه) وقال: (رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة! اذا رأيتكم، ذكرت بكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مالي بالمدينة سَكن ولا شجن غيركم، إني ثقلتُ على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشام، وكَرِه أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فأفسد الناس عليهما، فسيَّرني الى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله! والله ما أريد إلا الله صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة)[21].
وفاته (رضوان الله عليه):
فلما حضرت أباذر الوفاة وذلك في سنة ثمان في ذي الحجة من إمارة عثمان، أوصى ابنته إذا جاءك الذين يدفنونني فقولي لهم إن أباذر يقسم عليكم ألا تركبوا حتى تأكلوا، وأوصاها أن تستقبل به القبلة، وقال: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ثم خرجت ابنته فتلقتهم وقالت: رحمكم الله اشهدوا أباذر، قالوا: وأين هو فأشارت لهم إليه وقد مات فادفنوه، فقالوا: نعم ونعمة عين لقد أكرمنا الله بذلك، وإذا ركبٌ من أهل الكوفة فمالوا إليه فغسلوه وصلوا عليه ودفنوه فلما ارادوا أن يرتحلوا قالت لهم ابنته: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام وأقسم ألا تركبوا حتى تأكلوا ففعلوا وحملوهم حتى أقدموهم مكة.
آثاره بعد وفاته:
بذر رضوان الله عليه بذرة الولاء الطاهرة حينما نُفي إلى الشام في عهد عثمان بن عفان، فنمت هذه البذرة المباركة في القبائل الموالية للإمام علي (عليه السلام) والتي دخلت مع جيوش الفتح، واستقرت في جبل عامل، أمثال الهمدانيين وخزاعة التي منها الحرافشة، وكان هذا الجبل وبسبب موقعه الجغرافي نقطة اشعاع للولاء لآل البيت (عليهم السلام) للبلاد الأخرى كمصر والشام وما والاها [22].
مجلة بيوت المتقين العدد (18)
[1] الطبقات ابن سعد: ج4، ص161.
[2] الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 1، هامش ص225.
[3] تاريخ مدينة دمشق ابن عساكر: ج66، ص185.
[4] المستدرك للنيسابوري: ج3، ص 341.
[5] مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب: ج 1، ص 86 و87.
[6] تعليق التعليق ابن حجر: ج2، ص80.
[7] سورة التوبة: آية 34.
[8] أنساب الأشرف البلاذري: ج5، ص542.
[9] بحار الأنوار المجلسي: ج22، ص415.
[10] بحار الأنوار للمجلسي: ج22، ص 415.
[11] بحار الأنوار المجلسي: ج22، ص416.
[12] كنز العمال المتقي الهندي: ج 13، ص 160.
[13] المعتبر المحقق الحلي: ج 2، ص 497، 498.
[14] الكافي الشيخ الكليني: ج 2، ص 458.
[15] بحار الأنوار المجلسي: ج22، ص343.
[16] بحار الانوار المجلسي: ج22، ص420.
[17] بحار الأنوار المجلسي: ج22، ص420.
[18] روضة الواعظين الفتال النيسابوري: ص 284.
[19] الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 587.
[20] نهج البلاغة: ج2، ص13.
[21] أعيان الشيعة: ج4 ص239.
[22] مدارك الأحكام السيد محمد العاملي: ج1، ص10.