يوم دحو الأرض

ذُكِرَ دحو الأرض في القرآن مرتين في سورة النازعات حيث يصوّر لنا الباري عز وجل المشهد لعملية الخلق والدحو في قوله تعالى: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [1]‏ وكذلك في قوله تعالى: (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) [2]

وطبقاً لترتيب القرآن الكريم في آياته فإن أوّل الخلق المادي هو بناء السماء ثم رفعها الله تعالى وسوّاها، وبعدها أوجد الزّمان بإيجاد الليل والضّحى، ثم دحى الأرض، فتحدد المكان، ثم أرساها بالجبال.‏

والآن.. نقف قليلا مع هذا العنوان القرآنيّ (دَحْو الأرض) من خلال أربع نوافذ:

النافذة الأولى: تُطلّ على حقل اللغة، نقرأ في هذا الحقل:

دَحَوتُ الشيءَ دحْواً: بَسَطتُه.

أمّا طحا فبمعنى: بسط فوسع، والطحا: المنبسط من الأرض، والطاحي الممتدّ، وقيل أيضاً: الطَّحْو كالدَّحْو، وهو بسط الشيء والذَّهاب به.

وعليه يكون معنى (دحا الأرض): أي بسَطَها، ومدَّها، وأوسَعَها، وجعلها صالحة للسكن، حيث إنها كانت في البداية مغطاة بمياه الأمطار الغزيرة التي انهمرت عليها من مدة طويلة، ثم استقرت تلك المياه تدريجيا في منخفضات الأرض، فشكلت البحار والمحيطات، فيما علت اليابسة على أطرافها، وتوسعت تدريجيا، حتى وصلت لما هي عليه الآن من شكل، وحدث ذلك بعد خلق السماء والأرض.

النافذة الثانية: تُشرف على آفاق التفسير، يقول المفسّرون: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) أي بَسَطها ومَدَّها بعد ما بنى السماء ورفع سَمْكها وسوّاها، وأغطَشَ ليلَها وأخرَج ضُحاها. وذكرَ بعضهم أنّ الدحو بمعنى الدَّحرَجة.

أمّا الطَّحْو في قوله تعالى: (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) فهو الدَّحو، وهو البَسط، «وما» في وما بناها وما طحاها موصولة، والمعنى هو: الذي بناها وطحاها هو الله تعالى وقد استخدمت الآيتان و«ما» في «وما بناها» «وما طحاها» بدل «مَن» لإيثار الابهام المفيد للتفخيم والتعجيب فيكون المعنى: وأقسم بالسماء والشيء القوي العجيب الذي بناها، وأقسم بالأرض والشيء القوي العجيب الذي بَسَطها.

النافذة الثالثة: نتعرّف من خلالها على المناسبات والأحداث التي وقعت في يوم دحو الأرض:

1- أول رحمة وضعت على الأرض‏: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : (وأنزل الله الرحمة لخمس ليال بقين من ذي القعدة)[3].

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أول رحمة نزلت من السماء إلى الأرض في خمسة وعشرين من ذي القعدة)[4].

وعن الإمام الكاظم (عليه السلام): (في خمسة وعشرين من ذي القعدة وضع البيت وهو أول رحمة وضعت على وجه الأرض)[5].

2- هبوط آدم إلى الأرض:‏ عن الإمام الرضا (عليه السلام): (... وهبط فيه آدم)[6].

3- ولادة نبي الله إبراهيم الخليل وعيسى ابن مريم: روى الحسن بن علي الوشاء قال: (كنت مع أبي وأنا غلام فتعشينا عند الرضا (عليه السلام) ليلة خمس وعشرين من ذي القعدة، فقال له: ليلة خمس وعشرين من ذي القعدة ولد فيها إبراهيم (عليه السلام) وولد فيها عيسى بن مريم...)[7].

الكعبة ودحو الأرض‏:

كل ما ذُكِرَ من شرف وقدر للكعبة يضاف إليها أن بداية الأرض كانت من تحتها، فان أول بقعة خلقت هي البقعة التي وضعت عليها الكعبة الشريفة ثم دحيت الأرض من تحتها حتى صارت على الهيئة التي عليها الآن، ويدل عليه ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): (لما أراد الله عز وجل أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن وجه الماء حتى صار موجا ثم أزبد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت، ثم جعله جبلا من زبد ثم دحى الأرض من تحته وهو قول الله عز وجل: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً) [8]، فأول بقعة خُلقت من الأرض الكعبة ثم مُدّت الأرض منها.

وأما الفارق الزماني بين خلق الكعبة ودحو الأرض فهو ألفا عام، ويدل على ذلك ما رواه الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام): (وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إثباته، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محل أنبيائه، وقبلة للمصلين إليه، فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال، خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام) [9].

النافذة الرابعة: تُفتح على آفاق من العمل الصالح، نقرأ منها:

1- الصوم: هو أحد الأيام الأربعة التي يُؤكِّد فيها استحباب الصوم كما في الرواية عن الإمام الهادي (عليه السلام) قال: (الأيام التي يصام فيهن أربعة - إلى أن قال- ويوم الخامس والعشرين من ذي القعدة فيه دحيت الأرض)[10].

وإن للصائم في هذا اليوم أجرا عظيما، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : (... من صام ذلك اليوم، كان له كصوم سبعين سنة)[11].

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (... من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة فله عبادة مائة سنة، صام نهارها وقام ليلها، وأيما جماعة اجتمعت ذلك اليوم في ذكر ربهم عز وجل، لم يتفرقوا حتى يعطوا سؤلهم، وينزل في ذلك اليوم ألف ألف رحمة يضع منها تسعة وتسعين في حلق الذاكرين، والصائمين في ذلك اليوم، والقائمين في تلك الليلة)[12].

وعن الإمام الكاظم (عليه السلام): (... من صام ذلك اليوم كان كفارة سبعين سنة)[13].

وعن الإمام الرضا (عليه السلام): (... من صام ذلك اليوم كان كمن صام ستّين شهراً)[14].

3- الدعاء والإكثار من ذكر الله: يستحب في هذا اليوم الإكثار من ذكر الله والاهتمام بالدعاء فيه لمولانا صاحب الزمان ومسألة تعجيل فرجه من الخالق المنان.

ومن أهم الأدعية في هذا اليوم ما ذكره الشيخ الكفعمي «رحمه الله» في مصباحه وهو: (اللّهُمَّ داحِيَ الكَعْبَةِ وَفالِقَ الحَبَّةِ وَصارِفَ اللَّزْبَةِ وَكاشِفَ كُلِّ كُرْبَةٍ، أَسأَلُكَ فِي هذا اليَوْمِ مِنْ أَيَّامِكَ الَّتِي أَعْظَمْتَ حَقَّها وَأَقْدَمْتَ سَبْقَها وَجَعَلْتَها عِنْدَ المُؤْمِنِينَ وَدِيعَةً وَإِلَيْكَ ذَرِيعَةً وَبِرَحْمَتِكَ الوَسِيعَةِ ان تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ المُنْتَجَبِ فِي المِيثاقِ القَرِيبِ يَوْمَ التَّلاقِ فاتِقِ كُلِّ رَتْقٍ وَداعٍ إِلى كُلِّ حَقٍّ وَعَلى أهل بَيْتِهِ الاَطْهارِ الهُداةِ المَنارِ دَعائِمِ الجَبَّارِ وَوُلاةِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَعْطِنا فِي يَوْمِنا هذا مِنْ عَطائِكَ المَخْزُونِ غَيْرَ مَقْطُوعٍ وَلا مَمْنُوعٍ، تَجْمَعُ لَنا بِهِ التَّوْبَةَ وَحُسْنَ الاَوْبَةِ، يا خَيْرَ مَدْعُوٍّ وَأَكْرَمَ مَرْجُوٍّ يا كَفَيُّ يا وَفِيُّ، يا مَنْ لُطْفُهُ خَفِيُّ أُلطُفْ لِي بِلُطْفِكَ وَاسْعِدْنِي بِعَفْوِكَ وَأَيِّدْنِي بِنَصْرِكَ وَلا تُنْسِنِي كَرِيمَ ذِكْرِكَ بِوُلاةِ أَمْرِكَ وَحَفَظَةِ سِرِّكَ، وَاحْفَظْنِي مِنْ شَوائِبِ الدَّهْرِ إِلى يَوْمِ الحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَأَشْهِدْنِي أَوْلِياَئكَ عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِي وَحُلُولِ رَمْسِي وَانْقِطاعِ عَمَلِي وَانْقَضاء أَجَلِي اللّهُمَّ وَاذْكُرْنِي عَلى طُولِ البِلى إِذا حَلَلْتُ بَيْنَ أَطْباقِ الثَّرى وَنَسِيَنِي النَّاسُونَ مِنَ الوَرى وَاحْلِلْنِي دارَ المُقامَةِ وَبَوِّئْنِي مَنْزِلَ الكَرامَةِ وَاجْعَلْنِي مِنْ مُرافِقي أَوْلِيائِكَ وَأَهْلِ اجْتِبائِكَ واصْطِفائِكَ، وَبارِكْ لِي فِي لِقائِكَ وَارْزُقْنِي حُسْنَ العَمَلِ قَبْلَ حُلُوِل الاَجَلِ بَريئاً مِنَ الزَلَلِ وَسُوءِ الخَطَلِ، اللّهُمَّ وَأَوْرِدْنِي حَوْضَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَاسْقِنِي مِنْهُ مَشْرَبا رَوِيا سائِغا هَنِيئاً لا أَظْمأُ بَعْدَهُ وَلا اُحَلا وِرْدَهُ وَلا عَنْهُ أُذادُ، وَاجْعَلْهُ لِي خَيْرَ زادٍ وَأَوْفى مِيعادٍ يَوْمَ يَقُومُ الاَشْهادُ.

اللّهُمَّ وَالْعَنْ جَبابِرَةَ الأوَّلِينَ وَالآخرينَ وَبِحُقُوقِ أَوْلِيائِكَ المُسْتَأْثِرِينَ، اللّهُمَّ وَاقْصِمْ دَعائِمَهُمْ وَاهْلِكْ أَشْياعَهُمْ وَعامِلَهُمْ وَعَجِّلْ مَهالِكَهُمْ وَاسْلُبْهُمْ مَمالِكَهُمْ وَضَيِّقْ عَلَيْهِمْ مَسالِكَهُمْ وَالعَنْ مُساهِمَهُمْ وَمُشارِكَهُمْ، اللّهُمَّ وَعَجِّلْ فَرَجَ أَوْلِيائِكَ وَارْدُدْ عَلَيْهِمْ مَظالِمَهُمْ وأَظْهِرْ بِالحَقِّ قائِمَهُمْ وَاجْعَلْهُ لِدِينِكَ مُنْتَصِراً وَبِأَمْرِكَ فِي أَعْدائِكَ مُؤْتَمِراً، اللّهُمَّ احْفُفْهُ بِملائِكَةِ النَّصْرِ وَبِما أَلْقَيْتَ إِلَيْهِ مِنَ الاَمْرِ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ مُنْتَقِما لَكَ حَتَّى تَرْضى وَيَعُودَ دِينُكَ بِهِ وَعَلى يَدَيْهِ جَدِيداً غَضّا وَيَمْحَضَ الحَقَّ مَحْضا وَيَرْفُضَ االباطِلَ رَفْضا، اللّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ وَعَلى جَمِيعِ آبائِهِ وَاجْعَلْنا مِنْ صَحْبِهِ وَاُسْرَتِهِ وَابْعَثْنا فِي كَرَّتِهِ حَتَّى نَكُونَ فِي زَمانِهِ مِنْ أَعْوانِهِ، اللّهُمَّ أَدْرِكْ بِنا قِيامَهُ وَأَشْهِدْنا أّيَّامَهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ وَارْدُدْ إِلَيْنا سَلامَهُ، وَالسَّلامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكاتُهُ).

4- الصلاة: يستحب في هذا اليوم صلاة ركعتين تُصلّى عند الضحى، بالحمد مرّة، والشمس خمس مرّات، وتقول بعد التسليم: (لا حَوْلَ وَلا قُوّةَ إلا بِاللهِ الْعَلىِّ الْعَظيمِ)، ثمّ تدعو وتقول: (يا مُقيلَ العَثَراتِ اَقِلْني عَثْرَتي، يا مُجيبَ الدّعَواتِ اَجِبْ دَعْوَتي، يا سامِعَ الأَصْواتِ اِسْمَعْ صَوْتي، وَارْحَمْني وَتَجاوَزْ عَنْ سَيِّئاتي، وَما عِنْدي يا ذَا الْجَلالِ وَالاكْرامِ).

 

لتحميل الملف اضغط هنا


[1] سورة النازعات: الآيات 27-33.

[2] سورة الشمس: الآية 6.

[3] وسائل الشيعة: ج10، ص451.‏

[4] وسائل الشيعة: ج10، ص451.‏

[5] الكافي: ج4، ص149.

[6] الكافي: ج4، ص150.‏

[7] وسائل الشيعة: ج10، ص449.‏

[8] الكافي: ج4، ص190.

[9] الكافي: ج4، ص198.

[10] وسائل الشيعة: ج10، ص456.

[11] إقبال الأعمال: ج2، ص27.

[12] إقبال الأعمال: ج2، ص27.

[13] وسائل الشيعة: ج10، ص450.

[14] وسائل الشيعة: ج10، ص450.