حركة التصحيح التي قادتها الزهراء (عليها السلام)

الصراع بين الحق والباطل له امتداد تأريخي قديم، ولا يكاد مكان أو زمان على هذه البسيطة يخلو من هذا الواقع، والتأريخ الإسلامي ليس بمعزل عن هذه السنن، ولعل من أهم الفترات التي مرَّ بها تاريخ المسلمين بصورة واضحة من صور هذا الصراع هي الفترة التي أعقبت استشهاد النبي (صلى الله عليه وآله)، وما جرى فيها من الأحداث التي لها الأثر الواضح على حياة المسلمين إلى يوم الناس هذا، هذه ناحية، ومن ناحية أخرى، نجد أن لكل فترة من فترات الصراع هناك من يلتزم ويتبنى المنهج القويم الكفيل بتحقق السعادة البشرية، ويدافع ويضحي في سبيله بكل ما بوسعه من إمكانات.

ولو أمعنا النظر في تأريخنا - نحن المسلمين - نجد أن بوادر الانقلاب بدت واضحة قبل رحيل المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وبالتحديد في قضية تجهيز جيش أُسامة بن زيد، وكذلك مأساة رزية يوم الخميس-كما عبر عنها ابن عباس-.

وتجلّت هذه الانقلابات وأخذت طريقها على مسرح الواقع فور انتقال النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) والتحاقه بالرفيق الأعلى، حيث أُعلن الانحراف عن جادة الصواب، والانقلاب على الأحكام الإلهية، وسلب الخلافة عن مستحقيها، فكانت السقيفة، وما أدراك ما السقيفة!! حَدَثٌ غيَّر اتجاه الحركة التصحيحية للمجتمع التي جاهد وضحى من أجلها النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته والصحابة المخلصون (عليهم السلام)، وأعاد القواعد الجاهلية بعد اندراسها.

لذا صدعت بالحق سليلة النبوة، ووريثة الجهاد، والصفوة المختارة من العباد، وقامت بذلك الدور الرسالي، وقادت الحركة التصحيحية لإعادة الخلافة الإسلامية إلى مسارها الإلهي، وأخذت حركة الحق هذه ألوانا وصيغاً متعددة.

 بدأت الزهراء (عليها السلام) حركتها الخالدة المطالبة بحق أمير المؤمنين (عليه السلام) بقضية فدك النحلة، وجعلتها مفتاحاً لنهضتها ووسيلة للوصول إلى الهدف الإلهي، فعندما أعماهم الشيطان، انتقلت (عليها السلام) إلى المطالبة بإرثها من تركة النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن بعدها طالبت بحق أهل البيت (عليهم السلام) من سهم ذي القربى الذي فرضه الله لهم.

وكلما كانت (عليها السلام) تجلّي الظلمة بنور الحق، وتعّبد الدرب لطلاب النهج القويم، كلما أزداد انحدار أهل الباطل، في وادي الانحراف والهاوية، وازداد تعنّتهم بالاستمرار بمشروعهم الانقلابي الخطير.

فالمتمعن في خطبتها (عليها السلام) يجد ذلك واضحاً جلياً، فهي بدأت بذكر جملة من نعم الله تعالى على عباده، وبعثة الأنبياء والرسل وإنقاذهم من الهلاك بحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وجهاده في سبيل الله تعالى، ثم أظهرت مدح أمير المؤمنين (عليه السلام) والثناء على مواقفه الجهادية وتنمره في ذات الله، وتسجيل حق أهل البيت (عليهم السلام)، وأنهم الوسيلة إلى الله، ومحل قداسته، وورثة أنبيائه ورسله.

 كما حاولت إيقاظ الناس من رقدتهم، وتنبيهم على سوء اختيارهم المتسرع، ومغبة انقلابهم على أعقابهم بعد أن هداهم الله تعالى برسوله (صلى الله عليه وآله)، وإسنادهم الأمر إلى غير أهله، وورودهم غير شربهم، وتحذيرهم من الفتنة والسقوط فيها، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم.

ونلاحظ ذلك جلياً في هذه المقاطع من خطبتها العظيمة والتي قالت فيها: (الْحَمْدُ للّهِ عَلى ما أنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ على ما ألْهَمَ، وَالثّناءُ بِما قَدَّم، مِنْ عُمُومِ نِعَمٍ ابْتَدَأها...

وَأشْهَدُ أنَّ أبي مُحَمّداً (صلى الله عليه وآله) عَبْدُهُ وَرَسُولُه... فَأنارَ اللهُ - تَعالى - بِأبِي مُحَمّدٍ ظُلَمَها، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَها...

وَأنْتُمْ - عِبادَ اللهِ - نُصْبُ أمْرِهِ وَنَهْيِهِ فجعل اللهُ الاْيمانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشّرْكِ وَطاعَتَنا نِظاماً للْمِلّة؛ وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَة...

(كُلّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أطْفَأَهَا اللهُ) أوْ نَجَمَ قَرْنٌ للشّياطِينِ، أوْ فَغَرَتْ فاغِرةٌ  مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَذَفَ أخاهُ فِي لَهَواتِها  فَلا يَنْكَفِىءُ حَتّى يَطَأ صِماخَها بأخْمُصِهِ، وَيُخْمِدَ لهبتها بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً فيِ ذاتِ الله، مُجْتَهداً فيِ أمْرِ اللهِ، قَريباً مِنْ رَسُولِ الله، سَيِّداً في أولياء اللهِ، مُشَمِّراً ناصِحاً مُجِدّاً كادِحاً، وَأنْتُمْ فيِ رَفاهيَةٍ مِنَ الْعَيش وَادِعُونَ فاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنا الدَّوائِرَ وَتَتَوَكّفُونَ الأخْبار، وَتَنْكِصُونَ عِنْدَ النِّزالِ، وَتفِرُّونَ مِنَ الْقِتال...

فَوَسَمْتُمْ غَيْرَ إِبِلِكُمْ، وَأَوْرَدْتُمْ غَيْرَ شِرْبِكُمْ...

زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ (ألا فيِ الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنَّ جَهَنّمَ لَمُحيِطَةٌ بِالْكافِريِنَ).

يا ابْنَ أبيِ قُحافَةَ؟!! أَفيِ كِتابِ اللهِ أنْ تَرثَ أباكَ، ولا أرِثَ أَبيِ؟ قَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيّاً أَفَعَلى عَمْدٍ تَركْتُمْ كِتابَ اللهِ، وَنَبَذْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ...

أَلا وَقَدْ قُلْتُ ما قُلتُ عَلى مَعْرِفَةٍ مِنِّي، بِالخذْلَةِ الّتيِ خامَرَتْكُمْ، وَالْغَدْرَةِ الَّتِي اسْتَشْعَرَتْها قُلوُبُكُم ...(وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ منْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ). وَأَنا ابنةُ نَذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ. فَاعْمَلوُا إنّا عامِلوُنَ، (وَانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِروُنَ)).