قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[1].
سبب النزول:
روي أن الأكل كان محرّما في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراما بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقال له مطعم بن جيبر شيخا ضعيفا، وكان صائما، فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حَرُم عليّ الأكل في هذه الليلة.
فلما أصبح حضر حَفْر الخندق فأُغمي عليه، فرآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرقَّ له.
وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان، فأنزل الله هذه الآية، فأحلَّ النكاح بالليل في شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر. مجمع البيان، في تفسير الآية.
رخصة في أحكام الصوم:
الآية الكريمة تتضمن أربعة أحكام إسلامية في حقل الصوم والاعتكاف.
تقول أولا: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ). (الرفث: هو الحديث المكشوف عن المسائل الجنسية، واستعير لمعنى الجماع كما في الآية)
ثم تذكر الآية سبب الحكم فتقول: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ).
واللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد وأنواع الأخطار من جهة، ويستر عيوب الجسم من جهة أخرى، أضف إلى أنه زينة للإنسان، وتشبيه الزوج باللباس يشمل كل هذه الجوانب، فالزوجان يحفظ كل منهما الآخر من الانحراف والعيوب، ويوفّر كل منهما سبل الراحة والطمأنينة للآخر، وكل منهما زينة للآخر.
هذا التعبير يوضح غاية الارتباط المعنوي بين الرجل والمرأة ومساواتهما في هذا المجال، فالتعبير جاء للرجل كما جاء للمرأة بدون تغيير.
ثم يبيّن القرآن سبب تغيير هذا القانون الإلهي ويقول: (عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ)، فالله سبحانه وسّع عليكم الأمر وخفّفه، وجعل فيه رخصة بلطفه ورحمته، كي لا تتلوثوا بالذنوب، (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ)، وهذا الأمر لا يعني طبعا الوجوب، بل هو رخصة بعد المنع، أو هو بتعبير الأصوليين (الأمر عقيب الحظر)، ويدل على الجواز.
عبارة (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ) إشارة إلى أن الاستفادة من هذه الرخصة الكائنة في مسير قوانين الخلقة وحفظ النظام وبقاء النسل لا مانع فيها.
ثم تبيّن الآية الحكم الثاني وتقول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ). للمسلم - إذن - أن يأكل ويشرب في الليل، حتى إذا طلع الفجر يمسك.
وتبيّن الآية الحكم الثالث: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ).
هذه الجملة تأكيد على حظر الأكل والشرب والنكاح في أيام شهر رمضان للصائمين، وتشير إلى أن الحظر يبدأ من طلوع الفجر وينتهي عند الليل.
تطرح الآية بعد ذلك الحكم الرابع وتقول: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).
هذا الحكم يرتبط بالاعتكاف، وهو شبيه بالاستثناء من الحكم السابق، ففي الاعتكاف الذي لا تقل مدته عن ثلاثة أيام، لا يحق للمعتكف الصائم أن يباشر زوجته لا في الليل ولا في النهار.
في ختام الآية عبارة تشير إلى كل ما ورد فيها من أحكام تقول: (تِلْكَ حُدُودُ الله فَلا تَقْرَبُوهَا)؛ لأن الاقتراب من الحدود يبعث على الوسوسة، وقد يدفع الإنسان إلى تجاوز الحدود والوقوع في الذنب.
نعم، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
الحدود الإلهية:
بعد أن ذكرت الآية الكريمة بعض أحكام الصوم والاعتكاف، عبّرت عن هذه الأحكام بالحدود الإلهية، وهي الحدود بين الحلال والحرام... بين الممنوع والمباح. ومن الملفت للنظر أن الآية لم تقل لا تتجاوزوا هذه الحدود، بل قالت: فلا تقربوها، لأن الاقتراب منها يؤدي إلى إثارة الوساوس، وقد يؤدي أحيانا إلى تجاوز هذه الحدود.
لذلك نهى الإسلام عن الولوج في مناطق تؤدي إلى إنزلاق الإنسان في المحرمات، كالنهي مثلا عن الاشتراك في مجالس شرب الخمر حتى مع عدم التلوث بالخمرة، أو النهي عن الاختلاء بالمرأة الأجنبية.
هذا النهي ورد في النصوص الإسلامية تحت عنوان (حماية الحمى).
ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إن حمى الله محارمه، فمن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، في تفسير الآية المذكورة.
من هنا فالمتقون لا يجنّبون أنفسهم الوقوع في المحرمات فحسب، بل يسعون إلى عدم الاقتراب من حافة الحرام.
الاعتكاف:
العكوف والاعتكاف أصله اللزوم، يقال: عكفت بالمكان، أي أقمت به ملازما له، وهو في الشرع اللبث في المساجد للعبادة، وأقله ثلاثة أيام يصوم خلالها المعتكف ويكف عن بعض المباحات.
هذه العبادة لها الأثر العميق على تصفية الروح والقرب من الله، وذكرت كتب الفقه آدابها وشروطها، هذه العبادة مستحبة، وقد تتخذ أحيانا في ظروف استثنائية طابع الوجوب.
في الآية التي نبحث فيها ورد ذكر أحد شروط الاعتكاف وهو حظر النكاح ليلا ونهارا، وهذه الإشارة جاءت لارتباطها بمسألة الصوم.
طلوع الفجر:
الفجر في الأصل شق الشيء شقا واسعا، وسُمِّي الصبح فجرا لأنه فجر الليل، وعبّرت الآية عن الفجر أيضا بأسلوب (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ). وهذا التعبير يُوضّح أيضا الفرق بين الصبح الصادق والصبح الكاذب، فالأول هو بياض شفاف أفقي يظهر في أفق السماء كخيط أبيض يظهر إلى جوار الخيط الأسود، وهذا هو الصبح الصادق وبه يتعلق حكم الصوم والصلاة، ولا يشبه الفجر الكاذب[2].
مجلة بيوت المتقين العدد (64)