وبعد هذا، فالمعاد الجسماني - بالخصوص - ضرورة من ضروريات الدين الاسلامي، دلَّ صريح القرآن الكريم عليها (أَيَحْسَبُ الاِنس-نُ ألَّن نَّجمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى ق-دِرينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانُه)[1].
(وَإن تَعجَبْ فَعَجَبٌ قَولُهُم أَإذا كُنّا تُراباً أَءِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ)[2].
(أَفَعَيِينَا بِالخَلقِ الاَوَّلِ بَلْ هُمْ في لَبسٍ من خَلقٍ جَدِيدٍ)[3].
وما المعاد الجسماني - على إجماله - إلاّ اعادة الانسان في يوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب، وإرجاعه إلى هيئته الاولى بعد أن يصبح رميماً.
ولا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني أكثر من هذه العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن، وأكثر ممّا يتبعها من الحساب والصراط، والميزان والجنة النار، والثواب والعقاب بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنية.
(ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلاّ صاحب النظر الدقيق، كالعلم بأنّ الاَبدان هل تعود بذواتها أو إنّما يعود ما يماثلها بهيئات؟ وأنّ الاَرواح هل تعدم كالاَجساد أو تبقى مستمرّة حتى تتّصل بالاَبدان عند المعاد؟ وأنّ المعاد هل يختص بالانسان أو يجري على كافّة ضروب الحيوان؟ وأنّ عودها بحكم الله دفعي أو تدريجي؟
وإذا لزم الاعتقاد بالجنة والنار لا تلزم معرفة وجودهما الآن، ولا العلم بأنّهما في السماء أو الاَرض، أو يختلفان.
وكذا إذا وجبت معرفة الميزان لا تجب معرفة أنّها ميزان معنوية، أو لها كفّتان.
ولا تلزم معرفة أنّ الصراط جسم دقيق، أو هو الاستقامة المعنوية.
والغرض أنّه لا يشترط في تحقيق الاسلام معرفة أنّها من الاجسام...)[4].
نعم، إنّ تلك العقيدة في البعث والمعاد على بساطتها هي التي جاء بها الدين الاسلامي، فاذا أراد الانسان أن يتجاوزها إلى تفصيلها بأكثر ممّا جاء في القرآن ليقنع نفسه دفعاً للشبه - التي يثيرها الباحثون والمشككون بالتماس البرهان العقلي أو التجربة الحسية - فانّه إنّما يجني على نفسه، ويقع في مشكلات ومنازعات لا نهاية لها.
وليس في الدين ما يدعو إلى مثل هذه التفصيلات التي حشدت بها كتب المتكلِّمين والمتفلسفين، ولا ضرورة دينية ولا اجتماعية ولا سياسية تدعو إلى أمثال هاتيك المشاحنات والمقالات المشحونة بها الكتب عبثاً، والتي استنفدت كثيراً من جهود المجادلين وأوقاتهم وتفكيرهم بلا فائدة.
والشبه والشكوك التي تُثار حول تلك التفصيلات يكفي في ردّها قناعتنا بقصور الانسان عن إدراك هذه الاُمور الغائبة عنّا، والخارجة عن أفقنا ومحيط وجودنا، والمرتفعة فوق مستوانا الاَرضي، مع علمنا بأنّ الله تعالى العالم القادر أخبرنا عن تحقيق المعاد ووقوع البعث.
وعلوم الانسان وتجريباته وأبحاثه يستحيل أن تتناول شيئاً لا يعرفه ولا يقع تحت تجربته واختباره إلاّ بعد موته وانتقاله من هذا العالم عالم الحس والتجربة والبحث، فكيف ينتظر منه أن يحكم باستقلال تفكيره وتجربته بنفي هذا الشيء أو إثباته؟ فضلاً عن أن يتناول تفاصيله وخصوصياته، إلاّ إذا اعتمد على التكهّن والتخمين، أو على الاستبعاد والاستغراب، كما هو من طبيعة خيال الانسان أن يستغرب كل ما لم يألفه ولم يتناوله علمه وحسّه، كالقائل المندفع بجهله لاستغراب البعث والمعاد (مَن يُحيي العِظَ-مَ وَهَيَ رَميمٌ)[5].
ولا سند لهذا الاستغراب إلاّ إنّه لم يرَ ميتاً رميماً قد اُعيدت له الحياة من جديد، ولكنّه ينسى هذا المستغرب كيف خُلقت ذاته لاَول مرة، ولقد كان عدماً، وأجزاء بدنه رميماً تألّفت من الاَرض وما حملت، ومن الفضاء وما حوى، من هنا وهنا، حتى صار بشراً سوياً ذا عقل وبيان (أَوَ لَمْ يَرَ الاِنس-نُ أَنَّا خلقنه مِن نُطفَةٍ فَإذَا هُو خَصِيمٌ مُبينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسي خَلقَهُ)[6].
يقال لمثل هذا القائل الذي نسي خلق نفسه: (يُحييِها الَّذِي أَنشَأَهَا أَوّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِ خَلقٍ عَليمٌ)[7].
يقال له: إنّك بعد أن تعترف بخالق الكائنات وقدرته، وتعترف بالرسول وما أخبر به، مع قصور علمك حتى عن إدراك سرَّ خلق ذاتك وسر تكوينك، وكيف كان نموّك وانتقالك من نطفة لا شعور لها ولا إرادة ولا عقل إلى مراحل متصاعدة مؤتلفاً من ذرات متباعدة؛ لتبلغ بشراً سوياً عاقلاً مدبّراً ذا شعور وأحساس[8]
يقال له: بعد هذا كيف تستغرب أن تعود لك الحياة من جديد بعد أن تصبح رميماً، وأنت بذلك تحاول أن تتطاول إلى معرفة ما لا قِبل لتجاربك وعلومك بكشفه؟
يقال له: لا سبيل حينئذ إلاّ أن تذعن صاغراً للاعتراف بهذه الحقيقة التي أخبر عنها مدبّر الكائنات العالم القدير، وخالقك من العدم والرميم.
وكلّ محاولة لكشف ما لا يمكن كشفه، ولا يتناوله علمك فهي محاولة باطلة، وضرب في التيه، وفتح للعيون في الظلام الحالك.
إنّ الانسان مع ما بلغ من معرفة في هذه السنين الاَخيرة، فاكتشف الكهرباء والرادار واستخدم الذرّة، إلى أمثال هذه الاكتشافات التي لو حُدِّث عنها في السنين الخوالي لعدَّها من أوّل المستحيلات، ومن مواضع التندّر والسخرية. إنّه مع كل ذلك لم يستطع كشف حقيقة الكهرباء ولا سر الذرّة، بل حتى حقيقة احدى خواصهما وأحد أوصافهما، فكيف يطمع أن يعرف سر الخلقة والتكوين، ثم يترقّى فيريد أن يعرف سرَّ المعاد والبعث.
نعم، ينبغي للانسان بعد الايمان بالاسلام أن يتجنَّب عن متابعة الهوى، وأن يشتغل فيما يصلح أمر آخرته ودنياه، وفيما يرفع قدره عند الله، وأن يتفكَّر فيما يستعين به على نفسه، وفيما يستقبله بعد الموت من شدائد القبر والحساب بعد الحضور بين يدي الملك العلاّم، وأن يتّقي (يوماً لا تَجزي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيئاً وَلا يُقبَلُ مِنها شَفعةٌ وَلا يُؤخَذُ مِنها عَدْلٌ ولا هُمْ يُنصَرون )؟
[1] القيامة 75: 3 - 4.
[2] الرعد 13: 5.
[3] ق 50: 15.
[4] مقتبس من كتاب كشف الغطاء: 5 للشيخ الكبير كاشف الغطاء.
[5] يس 36: 78.
[6] يس 36: 77 - 78.
[7] يس 36: 79.
[8] فقد قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنا الاِنسَ-نَ مِنْ سُلَلَةٍ مِنْ طِينِ * ثُمَّ جَعَلْنهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكين * ثُمَّ خَلَقْنا الْنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا الْمُضْغَةَ عِظَماً فَكَسَوْنَا العِظَمَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأنهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَباركَ اللهُ أَحْسَنُ الْخلِقِينَ) المؤمنون 23: 12 - 14.