المقدمة

إن الرسالة الإسلامية لما كانت النموذج الخاتم من رسالات السماء، فهي غاية الخلق والإيجاد في هذه الحياة، حيث قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)[1]، فالعبادة وما يترتب عليها من الاختبار والامتحان غايةُ الخلق والإيجاد، والدستور الذي افترضه الله سبحانه لهذه العبادة في الحياة هو دين الإسلام الذي جاء به النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في دعوته ورسالته الخاتمة، ولكن لما أراد الله للإنسان في هذه الحياة أن يتدرج تدرجا طبيعيا في استعداداته العقلية والنفسية والأخلاقية لكي يتقبل هذا الدستور الإلهي، كان لابد ـ بمقتضى سنن الله التي أسس الحياة الدنيا عليها ـ أن تكون هذه الرسالة هي آخر الرسالات، بعد أن يمهد لها مجموعة من الرسل بحسب الوقت وظروفه عن طريق:

1- سن الشرائع الأساسية، من التوحيد والعدل ونبذ الظلم والفواحش ما ظهر منها وما بطن، لتكون أساساً معرفياً، يعزز فطرة الإنسان ويؤكد توجهاتها في ذلك.

2- التبشير بقدوم الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) المتكفل بإرساء قواعد الشريعة المتكاملة التي هي أمل السماء وغاية الإيجاد.

هذا كله من الناحية التشريعية والأخلاقية، وأما من الناحية التكوينية، فقد اختار الله سبحانه لنبيه الكريم (صلى الله عليه وآله) خير الأصول، وأطهر الأرحام، لينتقل فيها متدرجاً من صلب شريف إلى رحم طاهر ويكون كل منهما مؤهلاً لاستقبال هذا النور العظيم الذي لم يخلق الله تعالى أشرف ولا أسبق منه، ففي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله): (أول ما خلق الله نوري)[2]، وليس ذلك لشيء إلا لكي تجري الأمور في هذه الحياة على سننها التي شاء الله أن تؤسس عليها الدنيا.

وبعد هذا فليس غريباً أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) في سيرته ـ حتى قبل البعثة ـ مثالاً للأخلاق العالية فصار يلقب بالصادق الأمين، بل لو رجعنا قليلاً لنسلط الضوء على آباء النبي (صلى الله عليه وآله) لوجدنا كلاً منهم سيدَ قومه وشريف عشيرته وصاحب الأخلاق ورافع راية القيم ومؤسس التشريعات فيها، بل كان يتميز بأمر مهم وهو أن فيه نور النبوة، حتى وصف أغلبهم بالقمر أو قريب منه، لذا كانوا أصحاب رسالة إلهية يستشعرونها في أعماق نفوسهم ويورثونها لمن بعدهم، وهي إيصال هذا النور بمنتهى الأمانة، وإيداعه في أرحام خير النساء فلا يقبلون التزويج بأي امرأة ما لم يسألوا عنها وتكون خير نساء قومها.

فهذه المقدمة أردنا منها بيان أمر مهم وهو أن رسالة الإسلام التي جاء بها خير الأنام (صلى الله عليه وآله) هي مشروع السماء لهذه الحياة، ولكن أريد لهذا المشروع أن يوجد في وقته المناسب وعلى أيدي خير خلق الله كلهم، والذي هو (صلى الله عليه وآله) بدوره أُعدَّ له لكي يكون مؤهلاً لأن يحمل هذه الأعباء الجسام في سبيل تحقيق هذه الرسالة، فكان النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وكانت رسالة الإسلام الخالدة بكل ما تعنيه هاتين الكلمتين من معاني الأخلاق والقيم والفضائل والكمالات الإلهية.

وهنا يجدر بنا في هذه المناسبة الكريمة أن نتوقف قليلاً لنرتشف ـ على قدر الوسع والطاقة ـ من هذا البحر المتلاطم الموّاج شذرات من حياته الشريفة التي زخرت بالمآثر والمكرمات، فقد روي أن يهودياً من فصحاء اليهود طلب من بعض صحابة النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: أخبرني عن أخلاق رسولكم؟ فدله على علي (عليه السلام)، فلما سأل علياً (عليه السلام) عنه، قال (عليه السلام): (صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه، فقال الرجل هذا لا يتيسر لي، فقال علي (عليه السلام): عجزت عن وصف متاع الدنيا وقد شهد الله على قلته حيث قال: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ)[3]، فكيف أصف أخلاق النبي (صلى الله عليه وآله) وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال: (وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[4])[5].

نسأل الله أن يوفقنا لما فيه خير الدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 


[1] سورة الذاريات: آية 56.

[2] بحار الأنوار: ج15، ص24 ح44.

[3] سورة النساء: آية 77.

[4] سورة القلم: آية4.

[5] تفسير الرازي: ج32، ص21.