(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ)[1].
في هذه الآية يطرح القرآن الكريم المعيار الصحيح لتقييم المجموعة البشرية، حيث ذكرت الآيات السابقة مسألة تغيير القبلة وجَعْل الكعبة قبلةً للمسلمين، والضجة التي أثيرت من قبل أعداء الإسلام والمسلمين الجدد بشأن تغيير القبلة.
الآية أعلاه تخاطب هؤلاء وتقول: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).
(البِرّ) في الأصل التوسّع، ثم أطلق على أنواع الإحسان، لأن الإنسان بالإحسان يخرج من إطار ذاته ليتسع ويصل عطاؤه إلى الآخرين.
و(البَر) بفتح الباء، فاعل البِر، وهي في الأصل الصحراء والمكان الفسيح، وأطلقت على المحسن بنفس اللحاظ السابق.
ثم يبين القرآن أهم أصول البر والإحسان وهي ستة:
الأول: الإيمان بالمبدأ، والمعاد، والملائكة المأمورين من قبل الله، والمنهج الإلهي، والنبيين الدعاة إلى هذا المنهج فيقول تعالى: (مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)، والإيمان بهذه الأمور يضئ وجود الإنسان، ويخلق فيه الدافع القوي للحركة على طريق البناء والأعمال الصالحة.
جدير بالذكر أن الآية تقول: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ...) ولم تقل ولكن البَرّ بفتح الباء، أو البارّ بصيغة اسم الفاعل. أي أن الآية استعملت المصدر بدل الوصف، وهذا يفيد بيان أعلى درجات التأكيد في اللغة العربية. فحين يقول أحد: علي (عليه السلام) هو العدل في عالم الإنسانية، فهو يقصد أنه عادل للغاية وأن العدالة قد ملأت وجوده بحيث أن من يراه فكأنما لا يرى سوى العدالة متجسدة.
الثاني: الإنفاق في سبيل الله: تقول الآية الكريمة: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ).
إنفاق المال ليس بالعمل اليسير على الجميع، خاصة إذا بلغ الإنفاق درجة الإيثار، لأن حب المال موجود بدرجات متفاوتة في كل القلوب. وعبارة (عَلَى حُبِّهِ) إشارة إلى هذه الحقيقة. هؤلاء يندفعون للإنفاق رغم هذا الحب للمال من أجل رضا الله سبحانه.
الآية عددت ستة أصناف من المحتاجين إلى المال: ذكرت بالدرجة الأولى ذوي القربى، ثم اليتامى والمساكين، ثم أولئك الذين اعترتهم الحاجة مؤقتا كابن السبيل وهو المسافر المحتاج، ثم تذكر الآية بعد ذلك السائلين ثم تشير الآية إلى الرقيق الذين يتعطشون إلى الحرية والاستقلال بالرغم من عدم احتياجهم المادي وتأمين نفقتهم على عهدة مالكيهم.
الثالث: إقامة الصلاة: تقول الآية الكريمة: (وَأَقَامَ الصَّلاةَ). والصلاة إن أداها الفرد بشروطها وحدودها، وبإخلاص وخضوع، تصده عن كل ذنب وتدفعه نحو كل سعادة وخير.
الرابع: أداء الزكاة والحقوق المالية الواجبة: تقول الآية الكريمة: (وَآتَى الزَّكَاةَ). فالآية سبق أن ذكرت الإنفاق المستحب، وهنا تذكر الإنفاق الواجب. بعض الناس يكثر من المستحبات في الإنفاق ويتساهل في الواجب، وبعضهم يلتزم بالواجب فقط ولا ينفق درهما في إيثار. والمحسنون الحقيقيون هم الذين ينفقون في المجالين معا.
يلفت النظر أن الآية ذكرت عبارة على حبه بعد الإنفاق المستحب، ولم تذكر ذلك مع الزكاة الواجبة. ولعل ذلك يعود إلى أن أداء الحقوق الواجبة وظيفة إلهية واجتماعية، والفقراء - في منطق الإسلام - شركاء في أموال الأغنياء، ودفع المال للشريك لا يحتاج إلى العبارة المذكورة.
الخامس: الوفاء بالعهد: تقول الآية الكريمة: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)، فالثقة المتبادلة رأس مال الحياة الاجتماعية. وترك الوفاء بالعهد من الذنوب التي تزلزل الثقة وتوهن عرى العلاقات الاجتماعية، من هنا وجب على المسلم أن يلتزم بثلاثة أمور تجاه المسلم والكافر، وإزاء البر والفاجر، وهي: الوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، واحترام الوالدين[2].
السادس: الصبر: تقول الآية الكريمة: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ (حال الفقر والمسكنة) وَالضَّرَّاءِ (حال المرض) وَحِينَ الْبَأْسِ (حال القتال مع الأعداء)).
ثم تؤكد الآية على أهمية الأسس الستة وعلى عظمة من يتجلى بها، فتقول: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ).
صدقهم يتجلى في انطباق أعمالهم وسلوكهم مع إيمانهم ومعتقداتهم، وتتجلى تقواهم في التزامهم بواجبهم تجاه الله وتجاه المحتاجين والمحرومين وكل المجتمع الإنساني.
والملفت للنظر أن الصفات الست المذكورة تشمل الأصول الاعتقادية والأخلاقية والمناهج العملية. فتضمنت الآية كل أسس العقيدة، وكذلك أشارت إلى الإنفاق والصلاة والزكاة بين المناهج العملية، وهي أسس ارتباط المخلوق بالخالق، والمخلوق بالمخلوق. وفي الحقل الأخلاقي ركزت الآية على الوفاء بالعهد، وعلى الصبر والاستقامة والثبات، وهي أساس كل الصفات الأخلاقية السامية[3].
مجلة بيوت المتقين العدد (48)