عن النبي (صلى الله عليه وآله): (يا علي ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)[1].
إن المتصفح لتاريخ الحركات الإصلاحية سواء كانت من قِبل الأنبياء والمرسلين أو من غيرهم، يجد أن هناك تفاوتاً فيما بينها من حيث تحقيق أهدافها، ولعل هذا التفاوت ناشئ من جهة المجتمع الذي قامت فيه، ومدى تقبل ذلك المجتمع لها من حيث إيمان الأفراد بمبادئها وقيمها وهذا هو المهم الإيمان بالهدف والفكرـ لأنه هو الذي يصنع النجاح والاستمرارية للحركة، وكلما كان الإيمان بالفكرة والهدف كبيراً كلما كان النجاح مضموناً، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى نلاحظ أن درجة الإيمان بين الأتباع متفاوتة فهناك من يكون في أعلى مستوى من الإيمان وهناك من يكون في أدنى مستوى، كما نجد أن هناك من يُعدّ من الأتباع والمناصرين إلا أنه لا يحمل من أهداف الحركة ومبادئها شيئاً وإنما له أهدافه الخاصة غير أنه وجد المصلحة في هذا العمل، كما نجد أن هناك من هو في ضمن الأتباع إلا أنه يعمل لفئة أخرى مباينة لهذه الحركة.
وبعبارة أخرى إن إيمان الأتباع يشكل عنصراً وعاملاً مهماً في نجاح واستمرارية الحركة وصيانتها، وعلى مدى التأريخ نجد أن هناك من بقي ثابتاً وملتزماً بمبادئ حركة المصلحين، وهناك من غيّر وبدّل وانحرف عن المسار الصحيح لها بعد وفاة أو استشهاد أو غياب قائد الحركة، سواء كان من الأنبياء والرسل أم من غيرهم، ومرجع ذلك إلى مدى إيمان الأتباع وانصهارهم في قيم ومبادئ هذه الحركة، فمثلاً نجد أن قسماً من قوم موسى(عليه السلام) بدلوا وغيروا بعد غياب نبيهم موسى(عليه السلام) عنهم لأيام ولم ينصاعوا لمن خَلَّفه عليهم وأمرهم بطاعته: ﴿...وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ* فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي﴾[2]، وكذلك نجد فئة من قوم عيسى المسيح(عليه السلام) غيروا وانحرفوا عن المسار الصحيح الذي أرساه لهم نبيهم عيسى(عليه السلام) فبعد أن روّج الأعداء قتل عيسى(عليه السلام) وأقنعوهم بذلك لم يبق منهم إلا القليل فقد انحرف مسار الحركة التصحيحية للمسيح عن المسار المرسوم له، قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾[3].
والأمة الإسلامية لم تكن بمعزل عن هذا الشيء فقد شملتها هذه السنة أيضاً، ولم ينفع تحذير النبي(صلى الله عليه وآله) للأمة من الانحراف والانجرار والتبديل، فنجد أنه لم يدخر وسعاً في هذا المجال فكان دائم التوجيه والبيان للأمة من أن تكون شبيهة للأمم السالفة، فكانت معظم جهوده مركزة على صنع رجال يحملون المسؤولية ويصمدون أمام التحديات والشبهات التي يثيرها الأعداء والمنافقين، فكان يحذر من الانقسام وإتباع الهوى والانقلاب على الأعقاب، كما أوضح ذلك جلياً القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾[4].
وكان يبين للأمة الإسلامية أن عليها اختيار ما اختاره لهم الله تعالى كما في قوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾[5]، وأوضح ذلك بعدة مناسبات كقوله: (إن أمة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار، وإن أمة عيسى افترقت اثنين وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار)، وقوله: (لتتبعن سنن مَن كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه! قالوا: فاليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال فمن إذن؟!)[6]، ولم يكتف بالتحذير عن الانحراف والانقلاب فقط بل سد الطريق أمام الانقسام والانحراف بخطوات عملية مهمة، ذلك أنه نصب وعيّن بأمر من الله تعالى القيادة من بعده بأمر لا يشوبه الغموض، ابتداءا من نزول الوحي واستمر إلى قرب أجله، منها حديث الدار: (إن هذا أخي، ووصي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا)[7]، ومنها قوله لبعض القبائل عندما دعاهم إلى الإسلام فأرادوا الأمر من بعده لهم، حيث ردهم قائلاً: (الأمر لله يضعه حيث يشاء)، ومنها وصيته للمسلمين في غزوة بني قريظة، وغيرها الكثير الكثير وختمها حين طلب من المسلمين آنذاك كتفاً ودواة، قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس؟! يوم أشتد برسول الله(صلى الله عليه وآله) وجعه فقال: (إيتوني بدواة وبياض أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعد أبداً)[8]، فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبيّ تنازع - فقال عمر: إنّ النبيّ يهجر - وفي حديث آخر: (إنّه ليهجر)، وفي ثالث: (إنّه هجر) - ثمّ قال: عندنا القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف مَن في البيت، واختصموا فمن قائل يقول: القول ما قال رسول الله، ومن قائل يقول: القول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللغط واللغو، وتمادى القوم في نزاعهم، غضب رسول الله(صلى الله عليه وآله)فقال: (قوموا عني، لا ينبغي عند نبيّ تنازع)، فقاموا، فكان ابن عباس(رضي الله عنه) بعد ذلك يقول: (الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، لولا مقالته - يعني مقالة عمر - لكتب لنا كتاباً لم تختلف أمته بعده ولم تفترق)، ولعل حالة المجتمع من عدم رسوخ الإيمان بالإسلام عند البعض وعدم الوضوح في الرؤية واحدة من المصائب التي منيّ بها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، فلم يكن المجتمع آنذاك ينظر إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)
بأنه إمام مفترض الطاعة، وهذا يتضح جداً إذا ما عرفنا أنه (عليه السلام) كان ينهى عن أمور مبتدعة فلا يطاع، كما هو الحال في نهيه عن صلاة التراويح المبتدعة[9]، فقد روى البخاري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر: نعم البدعة هذه![10]. فاعترف كما ترى بأنها بدعة، وقد شهد الرسول(صلى الله عليه وآله) أن كل بدعة ضلالة، وقد روي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) لما اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماماً يصلي بهم نافلة شهر رمضان، زجرهم وعرفهم أن ذلك خلاف السنة فتركوه واجتمعوا لأنفسهم وقدموا بعضهم فبعث إليهم ابنه الحسن(عليه السلام)
فدخل عليهم المسجد ومعه الدرة فلما رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا (وا عمراه!)، فأنت تلاحظ أن هؤلاء لو كان لديهم عمق إيماني ومعرفة بحقوق الإمام(عليه السلام) وأنه منصب من قِبل الله تعالى لما كان هذا فعلهم.
ظهور الخوارج:
إن ظهور الخوارج في مناسبة حرب صفين لم يكن أمراً عفوياً، وليد ساعته، وإنما كان ثمة أجواء ومناخات، وكذلك عوامل وأسباب ساعدت على ظهورهم.
والخوارج فرقة ظهرت في النصف الأول، من القرن الأول الهجري، وبالتحديد في مناسبة حرب صفين التي كانت في سنة37هـ، والتي دارت رحاها بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، الخليفة الشرعي بكل ما لهذه الكلمة من معنى، من جهة، وبين معاوية بن أبي سفيان، الرجل الباغي الذي كان يحاول الاستئثار بأمر الأمة لنفسه، من جهة أخرى، وكان ظهورهم -العلني- بعد خدعة رفع المصاحف في تلك الحرب، من قبل جيش معاوية، بمشورة من عمرو بن العاص، بعد أن اتضح بما لا يقبل الشك حتمية هزيمة جيش الشام، لو استمرت الحرب، وقد أحدثت هذه الخدعة زلزالاً في جيش الإمام علي(عليه السلام)، حيث أدت إلى إجابة أكثر ذلك الجيش إلى حكم المصحف - على حد تعبيرهم - وبقي(عليه السلام) مع أهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم) في عدة يسيرة، يواجهون تهديدات أولئك الانفصاليين بنفس المستوى أو أشد من التهديد الذي كان يواجههم به جيش أهل الشام، ولم يكن يحق له(عليه السلام) أن يلقي بهذه الصفوة إلى التهلكة، كما ذكره(عليه السلام) في احتجاجه على الخوارج حين قال لهم: (.. وأما قولكم: إني لم أضربكم بسيفي يوم صفين، حتى تفيئوا إلى أمر الله، فإن الله عز وجل يقول: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، وكنتم عدداً، وأنا وأهل بيتي في عدة يسيرة)[11].
موقف الإمام(عليه السلام) من الخوارج:
عالج أمير المؤمنين(عليه السلام) قضية الخوارج بحكمة ومرونة، ثم بحزم وبحسم ايضاً، حيث حاول أولاً أن يقنعهم بخطأهم في تصوراتهم ومواقفهم، فناقشهم ووعظهم هو وأصحابه: ابن عباس وغيره، وأقاموا عليهم الحجة، حتى رجع منهم الألوف.
ويلاحظ هنا: أنه(عليه السلام) ينهى ابن عباس عن أن يخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه، ولكن يخاصمهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً.
كما أنه هو نفسه قد التزم بذلك إلى حدٍ كبير، حيث نجده يهتم بأن يحتج عليهم بأقوال النبي(صلى الله عليه وآله) وأعماله بالدرجة الأولى، فاحتج عليهم بأنه(صلى الله عليه وآله) قد رجم الزاني ثم صلى عليه وورثه أهله، وقتل القاتل كذلك، وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفييء، ونكحا المسلمات، فأخذهم(صلى الله عليه وآله) بذنوبهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولا أخرج أسماءهم من بين أهله.
واحتج عليهم أيضاً بمن النبي(صلى الله عليه وآله) على أهل مكة فلم يسب نساءهم ولا ذريتهم، وبمحوه(صلى الله عليه وآله) كلمة: (رسول الله) من صحيفة الحديبية، وبإعطائه النصفة لأهل نجران، حيث قال: (ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)وبتحكيمه سعد بن معاذ في بني قريظة الذين نقضوا العهد.
ولكن.. رغم كل تلك المحاولات والمواعظ والاحتجاجات، ورغم رجوع الألوف منهم عن غيهم، فقد بقيت بقيّة حوالي أربعة آلاف أبو إلا البقاء على ما هم عليه، ومحاربته، وقتلوا الأبرياء، حتى النساء، وأخافوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فاضطر(عليه السلام) لمحاربتهم لدفع شرهم، وإخماد نار فتنتهم، فحاربهم، وقتلهم، ولم يفلت منهم إلا أقل من عشرة كما لم يستشهد من أصحابه إلا أقل من عشرة، كما أخبر به عليه السلام قبل ذلك.
ويقول المؤرخون: إن الذين أفلتوا من القتل قد اصبحوا بذرات أخرى للخوارج في مناطق عديدة فيما بعد.
وأما أولئك الذين استأمنوا، فقد صاروا يخرجون على علي(عليه السلام) وعلى غيره بعد ذلك، فخرج منهم ألفان على الإمام في النخيلة فقضى عليهم. ثم صار الخوارج يخرجون عليه في شراذم قليلة في بضعة مئات او أقل أو أكثر في الأنبار، وماسبذان، وجرجرايا، والمدائن، وسواد الكوفة، فكان يقضي على حركاتهم تلك الواحدة تلو الأخرى بيسر وسهولة.
قصة معركة النهروان:
استمرَّ الخوارج المارقون في غيِّهم، وأشتدَّ خطرهم بانضمام أعداد جديدة لمعسكرهم، وراحوا يُعلنون القول بشرك معسكر الإمام(عليه السلام)، ورأوا استباحة دمائهم، ولكن الإمام(عليه السلام) لم يتعرض لهم، وأعطاهم الفرصة عَسى أن يعودوا إلى الرأي السديد.
غير أنَّهم بدأوا يشكِّلون خطراً حقيقياً على دولة الإمام(عليه السلام) من الداخل، وبدأ خطرهم يتعاظم عندما قتلوا الصحابي الجليل عبد الله بن خباب(رضي الله عنه)، وبقروا بطن زوجته وهي حامل، وقتلوا نساءً من قبيلة طي.
فأرسل إليهم الإمام(عليه السلام) الصحابي الحارث بن مُرَّة العبدي، لكي يتعرَّف إلى حقيقة الموقف، غَير أنَّهم قتلوه كذلك .
فلما عَلم الإمام(عليه السلام) بالأمر، تقدَّم نحوهم بجيش من منطقة الأنبار، وبذل مساعيه من أجل إصلاح الموقف دون إراقة الدماء، فبعث إليهم أن يرسلوا إليه قتلة عبد الله بن الخباب، والحارث العبدي، وغيرهما، وهو يكفُّ عنهم، ولكنَّهم أجابوه أنهم كُلّهم قاموا بالقتل.
فأرسل الإمام(عليه السلام) إليهم الصحابي قيس بن سعد، فوعظهم وحذَّرهم، وطالبهم بالرجوع عن جواز سفك دماء المسلمين وتكفيرهم دون مُبرِّرٍ مقنع.
وتابع الإمام(عليه السلام) موقفه الإنساني، فأرسل إليهم أبا أيوب الأنصاري، فوعظهم ورفع راية ونادى: مَنْ جاء تحت هذه الراية -مِمَّن لم يقتل- فهو آمن، ومن انصرَفَ إلى الكوفة أو المدائن فهو آمن لا حاجة لنا به، بعد أن نُصيبَ قَتَلَة إخواننا.
وقد نجَحَت المحاولة الأخيرة نجاحاً جزئياً، حيث تفرَّق منهم أعداد كبيرة، ولم يبقَ إلا أربعة آلاف معاند، فقاموا بالهجوم على جيش الإمام(عليه السلام)، فأمر الإمام(عليه السلام) أصحابه بالكَفِّ عنهم حتى يبدءوا بالقتال.
فلما بدءوا بقتال جيش الإمام(عليه السلام) شَدَّ عليهم الإمام علي(عليه السلام) بسيفه ذي الفقار، ثم شَدَّ أصحابُه فأفنوهم عن آخرهم، إلاَّ تسعة نفر فرُّوا، وتحقَّق الظفر لراية الحق، وكان ذلك في التاسع من صفر سنة (38هـ)[12].
قتلى الخوارج:
إن عدد الخوارج الذين قتلوا في النهروان كان يتراوح بحسب اختلاف المصادر ما بين الألف وخمسمئة قتيل، وعشرة آلاف، ورقم الأربعة آلاف هو المرجح من بين تلك الأقوال لدى عدد من المؤرخين[13].
ويقول المؤرخون: (فاختلط القوم، فلم تكن إلا ساعة حتى قتلوا بأجمعهم، وكانوا أربعة آلاف فما فلت منهم إلا تسعة نفر، فهرب منهم رجلان إلى خراسان، إلى أرض سجستان، وفيها نسلهما إلى الساعة، ورجلان صارا إلى بلاد الجزيرة، إلى موضع يقال له سوق التوريخ، وإلى شاطئ الفرات، فهناك نسلهما إلى الساعة، وصار رجل إلى تلّ يقال له: تل موزن)[14].
وقد ظهر صدق ما أخبر به علي أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث لم ينج من خوارج النهروان إلا أقل من عشرة، فقيل: أربعة، وقيل: خمسة، وقيل: تسعة، وقيل: إن الذين أفلتوا كانوا عشرة، وقيل غير ذلك[15].
مقتل ذي الثدية:
(روى جماعة أن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يحدّث أصحابه قبل ظهور الخوارج أن قوماً يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدج اليد، سمعوا ذلك منه مراراً، فلما خرج أهل النهروان سار(عليه السلام) بهم إليهم، وكان منه معهم ما كان، فلما فرغ أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج، فالتمسوه فقال بعضهم ما نجده حتى قال بعضهم ما هو فيهم وهو يقول والله إنه لفيهم والله ما كذبت ولا كذبت ثم إنه جاءه رجل فبشره فقال يا أمير المؤمنين قد وجدناه وقيل بل خرج علي في طلبه قبل أن يبشره الرجل ومعه سليم بن ثمامة الحنفي والريان بن صبرة فوجدوه في حفرة علي شاطئ النهر في خمسين قتيلا فلما استخرجه نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة وحلمة عليها شعرات سود فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولي ثم تترك فنعود إلى منكبيه. فلما رآه قال الله أكبر ما كذبت ولا كذبت لولا أن تتكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قص الله عليَّ لسان نبيه لمن قاتلهم مستبصرا في قتالهم عارفا للحق الذي نحن عليه.
وقال حين مر بهم وهم صرعى بؤسا لكم لقد ضركم من غركم قالوا يا أمير المؤمنين من غرهم قال الشيطان وأنفس أمارة بالسوء غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي ونبأتهم أنهم ظاهرون.
قيل وأخذ ما في عسكرهم من شيء فأما السلاح والدواب وما شهر عليه فقسمه بين المسلمين وأما المتاع وأما الإماء والعبيد فإنه رده(عليه السلام) على أهله حين قدم)[16].
شهداء أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام):
مع الاتفاق على أن شهداء أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) في النهروان كان عددهم تسعة، إلا أنهم ذكروا أسماء ستة منهم فقط.
وقد سمى ابن أعثم الذين استشهدوا في النهروان من أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهم:
1- رويبة بن وبر البجلي. وعند ابن شهر آشوب في موضع آخر: رؤبة.
2- عبدالله بن حماد الحميري وعند ابن شهر آشوب: الأرحبي.
3 - رفاعة بن وائل الأرحبي.
4- كيسوم بن سلمة الجهني.
5- حبيب بن عاصم الأزدي.
وفي موضع عند ابن شهر آشوب: خب بن عاصم الأسدي.
6- عبدالله بن عبيد الخولاني إلى تمام التسعة وعند ابن شهر آشوب عبيد بن عبيد الخولاني.
فلم يقتل من أصحاب علي(عليه السلام) سوى أولئك التسعة[17].
خطبة الإمام علي(عليه السلام) في النهروان:
بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال(عليه السلام): (أيّها الناس أمّا بعد لم يكن ليفقأها (الفتنة) أحد غيري، ولو لم أك بينكم ما قوتل أصحاب الجمل وأهل النهروان، وأيم الله لولا أن تنكلوا وتدعوا العمل لحدّثتكم بما قضى الله على لسان نبيّكم(صلى الله عليه وآله) لمن قاتلهم مبصراً لضلالتهم عارفاً للهدى الذي نحن عليه).
ثمّ قال(عليه السلام): (سلوني قبل أن تفقدوني، إنّي ميّت أو مقتول بل قتلاً، ما ينتظر أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم)، وضرب بيده إلى لحيته، (والذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تضلّ مائة أو تهدي مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وسائقها).
فقام إليه رجل فقال: حدّثنا يا أمير المؤمنين عن البلاء، قال(عليه السلام): (إنّكم في زمان إذا سأل سائل فليعقل، وإذا سُئل مسئول فليثبت، ألا وإن من ورائكم أُموراً أتتكم جللاً مزوّجاً، وبلاءً مكلحاً مبلحاً، والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إن لو فقدتموني ونزلت كرائة الأُمور وحقائق البلاء، لقد أطرق كثير من السائلين، وفشل كثير من المسئولين، وذلك إذا قلصت حربكم وشمّرت عن ساق، وكانت الدنيا بلاء عليكم وعلى أهل بيتي، حتّى يفتح الله لبقية الأبرار، فانصروا قوماً كانوا أصحاب رايات يوم بدر ويوم حنين، تنصروا وتؤجروا، ولا تسبقوهم فتصرعكم البلية).
فقام إليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين حدّثنا عن الفتن، قال(عليه السلام): (إنّ الفتنة إذا أقبلتْ شبّهتْ، وإذا أدبرتْ نبّهتْ، يشبّهنَ مقبلات ويعرفنَ مدبرات، إنّ الفتن تحوم كالرياح، يُصِبْنَ بلداً ويُخطئنَ أُخرى، ألا إن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أُمية، إنّها فتنة عمياء، مظلمة مطينة، عمت فتنتها وخصت بليتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها، يظهر أهل باطلها على أهل حقّها، حتّى تملأ الأرض عدواناً وظلماً وبدعاً، ألا وإن أوّل من يضع جبروتها ويكسر عمدها وينزع أوتادها الله ربّ العالمين .
وأيم الله لتجدن بني أُمية أرباب سوء لكم بعدي كالناب الضَروس، تعضّ بفيها، وتخبط بيديها، وتضرب برجليها، وتمنع درّها، لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا في مصركم إلاّ تابعاً لهم أو غير ضار، ولا يزال بلاؤهم بكم، حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ مثل انتصار العبد من ربّه، إذا رآه أطاعه، وإذا توارى عنه شتمه.
وأيم الله لو فرّقوكم تحت كلّ حجر لجمعكم الله لشرّ يوم لهم، ألا إنّ من بعدي جماع شتّى، ألا إنّ قبلتكم واحدة، وحجّكم واحد، وعمرتكم واحدة، والقلوب مختلفة)، ثمّ أدخل أصابعه بعضها في بعض .
فقام رجل إليه فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين ؟ قال(عليه السلام): (هذا هكذا يقتل هذا هذا، ويقتل هذا هذا، قطعاً جاهلية ليس فيها هدى ولا علم يرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة).
فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما نصنع في ذلك الزمان ؟ قال(عليه السلام): (انظروا أهل بيت نبيّكم، فإن لبدوا فالبدوا، وإن استصرخوكم فانصروهم تؤجروا، فلا تسبقوهم فتصرعكم البلية).
فقام رجل آخر فقال: ثمّ ما يكون بعد هذا يا أمير المؤمنين، قال(عليه السلام): (ثمّ إنّ الله تعالى يفرّج الفتن برجل منّا أهل البيت كتفريج الأديم، بأبي ابنُ خيرة الإماء، يسومهم خسفاً، ويسقيهم بكأس مصبرة، فلا يعطيهم إلاّ السيف هرجاً هرجا، يضع السيف على عاتقه ثمانية أشهر، ودّت قريش عند ذلك بالدنيا وما فيها، لو يروني مقاماً واحداً قدر حلب شاة أو جزر جزور لأقبل منهم بعض الذي يرد عليهم، حتّى تقول قريش: لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا، فيغريه الله ببني أُمية فيجعلهم ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾)[18][19].
النبي(صلى الله عليه وآله) يخبر بالمارقين:
روي عن أبي كثير مولى الأنصار، قال: كنت مع سيدي، علي بن أبي طالب(عليه السلام)، حيث قتل أهل النهروان، فقال علي(عليه السلام): (يا أيها الناس، إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد حدثنا بأقوام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، ثم لا يرجعون فيه أبداً، حتى يرجع السهم على فوقه، وإن آية ذلك: أن فيهم رجلاً أسود، مخدج اليد، أحد ثدييه كثدي المرأة، لها حلمة كحلمة ثدي المرأة، حوله سبع هلبات، فالتمسوه فإني أراه فيهم، فالتمسوه، فوجدوه إلى شفير النهر، تحت القتلى، فأخرجوه، فكبر الإمام علي(عليه السلام)، فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله، وإنه لمتقلد قوساً له، عربية، فأخذها بيده، فجعل يطعن بها في مخدجيه، ويقول: صدق الله ورسوله، وكبر الناس حين رأوه، واستبشروا، وذهب ما كانوا يجدون)[20].
[1] الخصال، الشيخ الصدوق: ص574.
[2] سورة طه: آية85-86.
[3] سورة المائدة: آية78-79.
[4] سورة آل عمران: آية144.
[5] سورة الأحزاب: آية36.
[6] الرسائل العشر، الشيخ الطوسي: ص127.
[7] كنز العمال، المتقي الهندي: ج15، ص115.
[8] مسند أحمد، ابن حنبل: ج1، ص355.
[9] روضة المتقين، العلامة المجلسي: ج9، ص324.
[10] صحيح البخاري، البخاري: ج2، ص252.
[11] تأريخ اليعقوبي، اليعقوبي: ج2، ص192.
[12] الإيضاح، الفضل بن شاذان: ج1، ص49.
[13] علي والخوارج، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج1، ص171.
[14] الفتوح، ابن أعثم الكوفي: ج4، ص132.
[15] راجع الفتوح، ابن أعثم الكوفي: ج4، ص132، ومروج الذهب، المسعودي: ج2، ص406، واثبات الوصية، المسعودي: ص147، والكامل في الأدب، المبرد: ج3، ص237.
[16] الكامل في التاريخ، ابن الأثير: ج٣، ص ٣٤٨.
[17] الفتوح، ابن أعثم الكوفي: ج4، ص127.
[18] سورة الأحزاب: آية62.
[19] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج33، ص366.
[20] مسند أحمد، ابن حنبل: ج1، ص88.