دوافع معاوية التي دعته إلى طلب الصلح، كانت من نوع آخر لا يرجع في جوهره إلى العجز عن القتال، ولا ينظر في واقعه إلى وجهة نظر دين أو إصلاح أو حقن دماء، فلا الإصلاح ولا حقن الدماء بالذي يُعنى به معاوية فينزل له عن مطامعه في بسط السلطة، وفي غاراته على المدينة ومكة واليمن، ومواقفه الجريئة بصفين، ما يزيدنا بصيرةً في معرفة الرجل وإن قلّ عارفوه.
إذاً، فليكن طموحاً نفعياً خالصاً، هو الأشبه بتاريخ معاوية الذي جاء تاريخه أشبه بأسطورة، فقد خُيِّل إليه بأنّ تنازل الحسن (عليه السلام) له عن الحكم، سيكون معناه في الرأي العام، تنازله عن (الخلافة)، وظن أنه سيُصبح - على هذا – (الخليفة الشرعي في المسلمين)، فيبدأ بتقويض أركان الإسلام التي طالما حلم أبوه بتقويضها، فكان الابن على سر أبيه بذلك الشَّر المتوارث في سلالته والمستمر في عقبه، وكيف لا وهم الشجرة الملعونة في القرآن التي قُدَّر لها أن تُذيق المسلمين وأهل بيت نَبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) بالخصوص الأَمَرَّين، فيكونوا طواغيت العصور بعد عصر الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكان هذا هو الحُلُم اللذيذ الذي استرخص في سبيله كلَّ غالٍ، وخَفِيَ عليه أن الإسلام أعزُّ جانباً من أن يُهضَم بالأساليب الهوج، أو يُعطي إقليده للطلقاء وأبناء الطلقاء.
هذا، ولا نُنكر أن يكون لمعاوية بواعث أخرى جعلت منه إنسانا آخر يُنكر الحرب ويمد يده إلى الصلح ويوقِّع الشروط ويحلف الأيمان ويؤكد المواثيق، ولكنّا - إذ نتحرى بواعثه الأخرى - لا نزول عن الاعتقاد بأن الحُلُم اللذيذ الذي ذكرناه، كان أكبرَ دوافعه وأشدَّ بواعثه.
وفيما يلي قائمة مناسبات تصلح لأن تكون بعض دوافعه إلى الصلح:
1 - إنه كان يرى أن الحسن بن علي (عليهما السلام)، هو صاحب الحق في الأمر، ولا سبيل إلى اقتناص (الأمر) إلا عن طريق إسكات الحسن (عليه السلام) - ولو ظاهراً -، ولا سبيل إلى إسكاته إلا بالصلح، بعد أن عرفه حق المعرفة أنه ابن قَتّال العرب الأنزع البطين، الذي له من المؤهلات الشخصية والسياسية ما يملك به قلوب المؤمنين ليلتفوا حوله، وليس له في مقابل ذلك إلا المكر والحيلة، وهو يعرف أن حبلهما قصير مهما طال الأمر.
أما رأيه بأولوية الحسن (عليه السلام) بالأمر، فقد جاء صريحاً في كتابٍ كتبه إلى الإمام الحسن (عليه السلام) قبيل زحفهما للصراع في مَسكِن، بقوله له: إنك أولى بهذا الأمر وأحق به، وجاء صريحاً فيما قاله لابنه يزيد على ذكر أهل البيت (عليهم السلام): يا بُنيَّ إن الحق حَقُّهم[1]، وفيما كتبه إلى زياد بن أبيه حيث يقول له على ذكر الحسن (عليه السلام): وأمّا تسلُّطه عليك بالأمر فحقٌ للحسن أن يتسلط.
وكذلك رأيناه يستفتي الإمام الحسن (عليه السلام)، فيما يعرض له من معضلات كمن يعترف بإمامته[2]، ويعترف للحسن (عليه السلام) بأنه (سيد المسلمين)[3] وهل سيّدُ المسلمين إلا إمامُهم؟.
2 - إنه كان - على كثرة الوسائل الطيّعة لأمره - شديدَ التوجس من نتائج حربه مع الحسن، ولم يكن كتوماً (كما يدّعي لنفسه) يوم قال في وصف خصومه العراقيين: فَوَاللّه ما ذكرت عيونهم تحت المخافر بصفين إلا لبس عَليّ عقلي[4]، ويوم قال فيهم: ما لهم عضبهم[5] اللّه بِشَر، ما قلوبهم إلا كقلب رجل واحد[6]، فكان يرى في الجنوح إلى الصلح، مفراً من منازلة هؤلاء ومواجهة عيونهم تحت المخافر ! .
3 - إنه كان يهاب موقع الإمام الحسن بن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في الناس، ومقامه الروحيّ الفريد في عقيدة المسلمين، فيتقي حربه بالصلح.
وكان يرى من الجائز، أن يُقيّض اللّه لمعسكر الشام من يتطوع لتنبيه الناس فيه إلى حقيقة أمر الإمام الحسن (عليه السلام)، وفظاعة موقفهم منه، الأمر الذي من شأنه أن لا يتأخر بمسلمة الجيش في جبهة معاوية عن الانتقاض عليه والنكول عنه، وبالجيش كله عن الانهيار أخيراً.
وكان معاوية لا يزال يتذكر في زحفه على الحسن (عليه السلام)، حديث النعمان بن جبلة التنوخيّ معه في (صفين) - وهو إذ ذاك أحد رؤساء جنوده المحاربين-، وقد صارحه بما لم يصارحه بمثله شاميّ آخر، وسَخِر منه بما لم يَسْخَر بمثله رَعيَّة من سلطان، ولا يأمن معاوية أن يشعر الناس تجاهه - اليوم - شعور ذلك التنوخي المغلوب على أمره – يومئذ -.
وكان مما قاله هذا التنوخي لمعاوية في صفين: واللّه لقد نصحتُك على نفسي، وآثرتُ ملكَك على دِيني، وتركتُ لهواك الرشدَ وأنا أعرفُه، وحُدْتُ عن الحق وأنا أُبصره، وما وافقت لرشد وأنا أقاتل عن ملك ابن عم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأول مؤمن به ومهاجرٍ معه، ولو أعطيناه ما أعطيناك، لكان أرأَفَ بالرعية وأجزَلَ في العطية، ولكن قد بذلنا لك الأمر، ولابد من إتمامه كان غياً أو رشداً، وحاشا أن يكون رشداً، وسنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها، إذا حرمنا أثمار الجنة وأنهارها![7].
وكان من سياسة معاوية، حبس أهل الشام عن التعرف على أحد من كبراء المسلمين - خارج الشام - لئلا يكون لهم من ذلك منفذ إلى إنكاره أو الانقسام عليه، ولذلك فلا نعرف كيف تسنى لهذا الشامي معرفة ابن عم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ومعرفة سبقه إلى الإيمان ورأفته بالناس وكرمه في العطاء وأولوّيته بالأمر.
وحرص معاوية على تجهيل أهل الشام بأَعلام الإسلام إلى آخر عهده، وكانت سياسته هذه، هي أداته في التجمعات التي ساقها لحروب صفين أولاً، ولحرب الحسن بن علي في (مسكن) أخيراً.
وتجد ظاهرة هذه السياسة - بما فيها من إعلان عن ضعف صاحبها - فيما قاله معاوية ذات يوم لعمرو بن العاص وقد تحدّى الحسَنَ بن علي (عليهما السلام)، فردّ عليه الحسن (عليه السلام) بتحدّياته البليغة التي لم يسلم منها المحرِّض عليها - أيضاً -، فقال معاوية لعمرو: واللّه ما أردتَ إلا هتكي، ما كان أهل الشام يرون أنَّ أحداً مثلي حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا[8].
4 - وكان من الرشاقة السياسية التي لا يُخطِئها معاوية في سبيل طموحه الأناني إلا نادراً، أن يدعو إلى (الصلح) فيلحّ عليه ويُشهد على دعوته هذه أكبر عدد ممكن من الناس في المِصرين - الشام والعراق - وفي سائر الآفاق التي يصلها صوته من بلاد الإسلام، ثم هو لا يقصد من وراء هذه الدعوة - على ظاهرها - إلا التمهيد لغده القريب الذي ستنكشف عنه نتائج الحرب بينه وبين الإمام الحسن (عليه السلام)، وكان أحد الوجهين المحتملين، أن يُدال للشام من الكوفة وأن تقضي الحربُ وذيولها على الحسن والحسين (عليهما السلام) وعلى من يليهما من أهل بيتهما وشيعتهما، ولا تدبير - يومئذ - للعذر من هذه البائقة الكبرى أروع من أن يُلقيَ معاوية مسؤوليتها على الحسن (عليه السلام) نفسه، ويقول للناس غير كاذب: إني دعوت الحسن للصلح، ولكن الحسن أبى إلا الحرب، وكنت أريد له الحياة، ولكنه أراد لي القتل، وأردت حقن الدماء، ولكنه أراد هلاك الناس بيني وبينه ....
ولمعاوية من هذه اللباقة الخبيثة أهدافه التي لا تتأخر به عن تصفية الحساب مع آل محمد (صلى الله عليه وآله) تصفيته الأموية الأخيرة، وهو إذ ذاك المنتصر العادل المتظاهر بالإنصاف، الذي يشهد له على إنصافه كل من كان قد أشهده - قبل الحرب - على ندائه بالصلح، أما الحسن (عليه السلام)، فلم يكن الرجل الذي تفوته اللباقة السياسية ولتنطلي عليه الأساليب الملتوية التي يبرع فيها عدوه للنكاية به، وإنما كان -على كل حال- أكبر من عدوه دهاء، وأبرع منه في استغلال الظروف واقتناص الفرص السانحة التي تجتمع عليها كلمة اللّه وكلمة المصلحة معاً، فرأى (عليه السلام) بثاقب بصره أن يستفيد من ظروفه المتداعية، ومن سوء نوايا عدوّه فيما أراد من الدعوة إلى (الصلح)، لقلب الكفّة لصالحه وصالح أصحابه والأمة بأسرها، مما استدعاه إلى الجواب بالإيجاب، ثم لم يكفه أنه قضى بذلك على خطط معاوية وشلها عن التنفيذ، حتى أخذ يضع الخطة الحكيمة من جانبه للقضاء على خصومه باسم الصلح.
[1] ابن أبي الحديد: ج4 ص5 وص13 وص73.
[2] وتجد الشواهد الكثيرة على ذلك فيما أورده اليعقوبي في تاريخه: ج2 ص201 وص202، وفيما استعرضه ابن كثير في البداية والنهاية: ج8 ص40، وفيما رواه في البحار: ج10 ص98.
[3] الإمامة والسياسة: ص159-160.
[4] المسعودي هامش ابن الأثير: ج6 ص67 وغيره.
[5] العَضَب: القطع، وفي اللسان: وتدعوا العرب على الرجل فتقول: ماله عضبه الله، يدعون عليه بقطع يديه ورجليه.
[6] تاريخ الطبري: ج6 ص3.
[7] المسعودي: هامش ابن الأثير: ج5 ص216.
[8] المحاسن والمساوئ للبيهقي: ج1 ص64.