الاستبداد

قيل إن الاستبداد أصل لكل فساد، وهو بيت الداء لجميع العلل، ولا يمكن حصره في جهة محددة أو نطاق مشخص، فهو فيروس لا يمكن السيطرة عليه ينال كل من يقف أمامه، ولا يسلم منه أحد إلا وتشكل بصوره وأشكاله المختلفة، فلكل فرد أو جماعة استبداد من نمط معين يزيد ويضعف تبعاً للبيئة التي عاش فيها والمحيط الذي يدور في فلكه.

ورعاية للأهم نغضَّ الطرف عن الاستبداد الفردي مع ماله من تأثير كبير على الحياة الاجتماعية، ومع علمنا الكامل بأن الاستبداد لا يتجاوز الفرد من طرف الفاعل والمفعول، وإن مظاهره الجلية حاضرة في كل فرد من أفراد مجتمعاتنا بنسب متفاوتة، إلا أننا سنضع الثقل كل الثقل على الاستبداد الجمعي في الفكر والممارسة والمتصل بعموم المجتمع.

فالفرد عندما يستبد قد تتخطی آثاره بعض الدوائر المحيطة به إلا أنه يبقى ضمن دائرة الخاص والمعقول، أما استبداد الجماعات فلا يقف نحو خط معين ويتخطى المسموح والمعقول.

صحيح أن كلمة (الاستبداد) لم يأت ذكرها في الكتاب الحكيم ولكن معانيها ومرادفاتها أو ما يضارعها أمثال: الطغيان التعسف، الظلم، الفساد، قد تُعد بالمئات ولعل أغلب السور القرآنية تطرقت إلى معنى الاستبداد بصورة أو بأخرى.

الإمام علي (عليه السلام) ونبذ الاستبداد:

التجربة الأقدس والأنموذج الأطهر لحاكمية الإسلام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهي التي رسمت الخطوط العامة لكيفية تصرف الحاكم مع شعبه وخصوصاً مع معارضيه، وحددت كذلك حقوق الراعي والرعية والواجبات المفروضة على كل طرف، لذلك ـ في كل زمان ومکان ـ نعتبر حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام)، المعيار في تقييم الحكومات، والمحك في تشخيص الحكام، فتجربته (عليه السلام) غنية وثرية وفيها الكفاية للساعين وراء العدل والحرية والتقدم.

وهناك زخم عظيم من الأقوال والروايات التي تحث على نبذ الاستبداد، والأخذ بمبدأ الشوری والعدالة في الفكر والعمل وأغلبها إذا لم نقل معظمها واردة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا تأكيد آخر على الأهمية التي يوليها الإمام (عليه السلام) لهذا المرض الفتاك وكيفية الخلاص منه، منها: «من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها) وقال (عليه السلام): «الحازم لا يستبد برأيه). وقال (عليه السلام): «خاطر من استبد برأيه) وقال (عليه السلام): «من استبد برأيه زل»[1].

أنواع الاستبداد:

يمكن تصنيف أنواع الاستبداد وفقاً لمعيارين:

الأول: من حيث الجهة الصادر عنها الاستبداد فقد يكون المستبد فرداً سواء كان حاكماً أو أباً أو زوجاً أو معلياً، وقد یکون المستبد عائلة أو عشيرة أو قبيلة عندما تستأثر أحداها لنفسها بإدارة نظام الحكم، وقد يكون المستبد حزباً سياسياً فيسما (الاستبداد الحزبي) عندما يحكم الدولة والمجتمع حزب واحد وتلغى أو تهمش باقي الأحزاب ومنظمات المجتمع.

المعيار الثاني: تصنيف الاستبداد من حيث مجالاته كالتالي: الاستبداد (الفكري) و (الاجتماعي) و(السياسي) و(الاقتصادي).

أما آثار الاستبداد الاجتماعية والفردية، وموقف الدين منها، وكيف التخلص من هذه الآفة، هذا ما سنتحدث عنه لاحقاً.

آثار الاستبداد:

يؤدي الاستبداد أينما وجد إلى التراجع في كافة مرافق الحياة ووجوهها، وإلى تعطيل الطاقات وهدرها، وإلى تقييد حركة تقدم المجتمعات، ووقف تطورها، وللاستبداد آثار سلبية كثيرة، ليس هذا المقال محل تفصيلها، ويكفي هنا الإشارة إلى الآثار التالية:

1- آثار الاستبداد على الدِين:

الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله سبحانه وتعالى لهداية البشرية منذ أول الأنبياء سيدنا آدم (عليه السلام) وحتى خاتم النبيين النبي محمد (صلى الله عليه وآله) جاؤوا وهم يحملون رسالة واحدة هي دعوة الناس إلى التحرر من عبودية بعضهم بعضاً، وعبادة الأوثان والأصنام إلى عبودية الله وحده لا شريك له، وتحقيق العدل والمساواة وتحريم امتهان كرامة الإنسان وسلب حقوقه وتوزيع الثروة بين الناس على أسس عادلة مصداقاً لقوله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ)[2]، وغرس المبادئ والقيم الأخلاقية النبيلة التي تحث على التراحم والتآلف بين أفراد المجتمع.

والاستبداد من حيث خصائصه وتطبيقاته يتناقض تناقضاً آلياً مع تلك المبادئ والقيم، فهو يصادر الحقوق ويكبت الحريات ويكرس الفرقة والتمزق والبغضاء بين أبناء المجتمع الواحد، ويحارب الأخلاق والقيم النبيلة ويسعى إلى تدميرها ولا يؤمن بمبدأ المساواة.

ومعنى ذلك أن العلاقة بين الدِين والاستبداد هي علاقة تضاد وتصادم ووجود أحدهما لابد وان يكون على حساب الآخر، وإذا ما أعدنا قراءة التاريخ والسير فسيتبين دون عناء أن الاستبداد كان وما يزال أهم العوائق والعقبات التي حالت وتحول دون تبليغ الرسالات السماوية ونشر الشرائع الإلهية، فلولا طغيان فرعون واستبداده لما واجه سيدنا موسى صعوبة في تبيلغ رسالته إلى قومه، ولولا استبداد قريش وطغيان قادتها لما هاجر نبينا محمد(صلى الله عليه وآله) إلى المدينة وترك (مكة)، وعليه فأن الدِين ينتشر ويقوى عندما تتوفر أجواء الحرية والمساواة، ويضعف ويتراجع في الأجواء والظروف التي يسودها الاستبداد.

وخطورة الاستبداد على الدِين تبرز في عدة جوانب، فمن جانب ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله لكي تعطيه مقام ذي علاقة مع الله، ولا أقل من أن يتخذ بطانة من أهل الدِين المستبدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله، وهذا بطبيعة الحال يشوه صورة الدِين الإسلامي الذي رفع الإصر والأغلال وأباد الميزة والاستبداد، ويفتح المجال للبدع والخرافات وإدخال ما ليس من الدِين فيه.

والاستبداد من جانب آخر يؤدي إلى تعطيل الكثير من الفرائض الشرعية، ومنها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تعتبر أهم واجب ورسالة للإنسان المسلم في حياته، فمن غير المعقول القيام بمهمة كهذه في ظل حكم مستبد يكبت الحريات ويصادر الحقوق ويرفض القبول بالنصح والمشورة.

2- الآثار الاجتماعية:

كما أن للاستبداد آثاراً مدمرةً على الأوضاع الاجتماعية وتماسك المجتمعات ومستوى تقدمها، فإن النظم الاستبدادية في الغالب تحارب العلم والعلماء وتسعى في العادة إلى تكريس الجهل والتخلف حتى لا تتنور الرعية بالعلم والمعرفة التي تساعد على توضيح ما للرعية وما عليهم، مالهم من حقوق وما عليهم من واجبات، فالعلم فيه من نور الله، وقد خلق الله النور كاشفًا للظلام ولاداً للحرارة والقوة، وجعل العلم مثله وضّاحاً للخير فضّاحاً للشر، يولد في النفوس حرارة وفي الرؤوس شهامة.

وقد أشرنا فيما مضى إلى آثار الاستبداد الديني... وقلنا: إنّ للاستبداد آثاراً مدمرة على الأوضاع الاجتماعية وتماسك المجتمعات ومستوى تقدمها، والنظم الاستبدادية في الغالب تحارب العلم والعلماء...

والقول إنّ الاستبداد عدو العلم ليس ادّعاءً وإنمّا توجد شواهد كثيرة على ذلك، والناظر المدقق في تاريخ الإسلام، يجد للمستبدين، من الخلفاء والملوك الأولين، أفعالاً مريعة في إطفاء نور العلم ومحاربة العلماء والمفكرين وفي الوقت الحاضر لا يخفى على أحد حقيقة ما فعلته الأنظمة المستبدة في العلم وأهله، إذ يلاحظ بهذا الشأن أن نسبة الأمية في المجتمعات التي تحكمها أنظمة مستبدة، أكثر من نسبة الأمية في المجتمعات التي تحكمها حكومات غير مستبدة كما أن هجرة العقول من الدول غير الديمقراطية إلى الدول الديمقراطية شاهد آخر على مثل هذه الحقيقة.

والخلاصة:

إنّ الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إرادة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكّلون بهم، فالسعيد منهم مَن يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا كما يقول الكواكبي: (سبب أنّ كل الأنبياء العظماء عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام، والأدباء النبلاء عاشوا حياتهم غرباء خارج بلدانهم).

 الاستبداد والطبقية

يؤثر الاستبداد سلباً في البناء الطبقي للمجتمعات حيث يقرر بناءً طبقياً هجيناً يتكون من ثلاث طوائف لكل طائفة (أو طبقة) مميزاتها الخاصة، فالأولى تتمتع بالكثير من الامتيازات بسبب امتناعها عن قول مالا يجب أن يسمعه المستبد، وهي (طائفة المتملقين)، وطائفة أخرى مضطهدة؛ لأنّها لا تعرف السكوت عما يجب قوله، وبين الطائفتين طائفة ثالثة تكتفي بالصمت والرجاء أملاً بتغيّر الأحوال، وفي عصر الاستبداد ينشأ الفرد ضعيفاً مهزوز الشخصية يميل إلى الخنوع والذل والتوجس والريبة بمن حوله، ويداهن ويرائي ويظهر مالا يبطن خوفاً من بطش المستبدين، ويصعد أراذل الناس؛ لأنهم وحدهم المستعدين لإهدار كل قيمة وكرامة من أجل إرضاء رغبة الحاكم المستبد وتنفيذ أوامره، في ظلم الرعية والتنكيل بهم، ويستبعد أصحاب الخلق الرفيع من الصدارة؛ لأنّ لا مكان لهم ولا قدر ولا وظيفة في منظومة الاستبداد، وإذا كان الاستبداد بمعناه الاجتماعي هو اعتقاد طائفة أو جماعة أو فئة أو قبيلة بأنَّ لها الحق في أن تعلوا وتسود دون غيرها فإنّ هذا يُفضي إلى إحياء النعرات العصبية والطائفية والمذهبية بين أبناء المجتمع الواحد مما يشكل تهديداً للوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي؛ لأنّ من غير المعقول أن تقبل بقيّة الطوائف أو الجماعات بالتهميش والعيش في إطار نظام لا يجسد الوطنية ولا يعترف بالمواطنة المتساوية.

الآثار الاقتصادية

وبالمثل للاستبداد آثار مدمرة على موارد الدولة واقتصاداتها الوطنية، فالاستبداد في أحد معانيه هو احتكار المال والثروة في يد فرد أو جماعة أو سلطة دون وجه حق وحرمان الآخرين منها، وعادةً ما يلجأ الحاكم المستبد لتوطيد سلطته إلى السيطرة على مصادر القوة الثلاثة الرئيسية، الجيش، كأداة قتل وقمع، والإعلام كأداة للتضليل والدعاية والتعظيم للحاكم ومنجزاته، والمال الذي يُحرم منه هذا أو يُعطى منه ذاك، وفي كل ذلك فإنّ المال يظلّ رأس الأمر كله فبه يجند الجنود وتجهز الجيوش وبه أيضاً تُشترى وسائل الإعلام والاعلاميون، وبشكل موجز فإن أثر الاستبداد على الأوضاع الاقتصادية تبرز في عدّة نقاط منها: ــ يؤدي الاستبداد بسبب سيطرة قلّه على المال والثروة إلى تمحور دورة المال في نطاق ضيق ومحدد، وحصر عدد المستفيدين إلى أعداد محدودة جداً، وينتج عن ذلك انتشار الفقر وتوسع مساحته وتدني المستوى المعيشي للمواطنين وانخفاض دخلهم المالي.

أسباب الاستبداد:

تتعدد أسباب نشوء الاستبداد باختلاف الظروف والعوامل، ولكن القاسم المشترك هو عوامل معنوية تنبع من ذات الإنسان الذي يشكّل عبر مجموعة الأفراد والمجتمع الأرضية القابلة لتحقق الاستبداد فيه، ذلك أنّ الاستبداد كالنبتة الخبيثة التي تنبت في التربة السيئة ولا تنبت في التربة الصالحة. وهناك قصّة في التاريخ تُعبّر عن هذا المعنى، عن ملك مغولي سأل الناس في مدينة فتحها وأراد قتلهم عن السبب في تسلّطه عليهم، فإن قالوا الله قتلهم، وإن قالوا هو الذي تسلّط عليهم قتلهم؛ لأنّ ذلك يعني أن القدر أوجب قتلهم، فأجابه حكيم منهم إنّهم هم الذين سلّطوه على أنفسهم بضعفهم وخوفهم.

هناك العديد من الأسباب والعوامل التي تقف وراء بروز ظاهرة الاستبداد، لعلّ أهمها ما يلي:

التربية العائلية والاجتماعية: تُساهم بشكل كبير في وجود الاستبداد؛ لأنّ الاستبداد سلوك يتعلّمه الإنسان من خلال ما يكتسبه من قيم وتقاليد خلال مدّة حياته، فعندما يكون الجو العائلي مشحوناً بالتسلّط والقهر والأحادية، فإنّ هذا ينعكس على الأبناء بشكل سلوك عام تظهر كوامنه وآثاره على اتجاهين الفاعلية حيث يكون الاستبداد السلوك الأولي الذي ينتهجه الفرد في تعامله مع الآخرين، واتجاه القابلية حيث يكون الفرد جاهزاً لقبول الاستبداد بكل أنواعه والتعاون معه.

القضاء على الحرية: إنّ أهم دواعي الاستبداد هو القضاء على الحرية، بل إنّهما نقيضان لا يلتقيان ولا يجتمعان، والحرية هي الانعكاس العملي للقدرة الفكرية والعقلية على الاختيار والإرادة، لذلك حاول المستبدون أن يوجدوا منطقاً هزيلاً يغرّر بالجهلاء وأنصاف المتعلّمين عبر تسييس العقيدة ونفي حرية الإرادة والاختيار عقائدياً، وأنّ الإنسان مجبور وغير مُخيّر، وأنّ الخالق هو الذي يجبر الناس على الفعل خيراً كان أم شرّاً، وذلك لتبرير شيئين: إنّ الناس مجبورون على الخضوع للمستبد والظالم مهما طغت وطفحت شروره، وليس من حقّهم المعارضة والنقد؛ لأنّ الخالق هو الذي نصبه عليهم، والشيء الثاني: إنّ الحاكم غير مسؤول عن أعماله الجائرة واستبداده المطلق وإسرافه في الدماء والأعراض؛ لأنّه مجبور على أعماله وغير مسؤول عنها. وقد حاولت الحكومات المستبدة على طول التاريخ نشر هذا المفهوم عبر وعّاظها لفرض سيطرتها المطلقة وسلب الحريات، وكان الأمويون من الذين سبقوا الآخرين لإيجاد مذاهب تدعو إلى هذا الأمر، فأسسوا الجبرية والمرجئة و... يقول معاوية: «لو لم يرني ربي أهلاً لهذا الأمر ما تركني وإياه، ولو كره الله ما نحن فيه لغيره، وأنا خازن من خزان الله تعالى أُعطي ما أعطى الله وأمنع ما منعه، ولو كره الله أمراً لغيره»[3].

انتشار الأُميّة: بين أفراد المجتمع والجهل المعرفي لدى قطاعات واسعة من الناس، مما يفقدهم القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، ويوفّر أفضل الفرص لتضليلهم وسيطرة الحكام المستبدّين عليهم.

وجود ثقافة مجتمعية مهادنة للاستبداد: وقابلة للتعايش معه والعيش تحت ظلاله من قبيل تعظيم الحاكم والنظر إليه على أنّه لا يخطأ، أو كمَن لا يجوز نقده أو محاسبته.

فعندما تتولّد في الناس مفاهيم القدرية وأنّ الإنسان ليس في يده أيّ قدرةٍ لتغيير الواقع أو الإسهام في ذلك وأنّ كل ذلك بيد الله لوحده، يُساق الناس إلى المذابح كالقطعان وقد مسخوا إلى عبيد لا روح فيهم ولا إرادة لهم، ومن هنا كان الهدف من بعث الأنبياء وإرسال الرسول الظاهري، هو لإثارة الحجة الباطنة، وهي العقل وتحريك الإرادة ودفع الإنسان لحريته يقول تعالى: (...وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ...)[4].

علاج الاستبداد والحد منه

العلاج لمرض خطير مثل الاستبداد لا يكون بالبخور، ولا يكون علاجاً شعبياً غامضاً، وإنّما يكون علاجاً على أُسس علمية يسير على محاور.

الاستبداد والحد منه

إنّ علاج أي مرض يبدأ بالتشخيص الصحيح المبني على أحدث ما وصل إليه العلم في هذه المرحلة، ويلي ذلك مصارحة المريض بمرضه حتى يتعاون في مراحل العلاج المختلفة، وفي حالة رفض المريض للعلاج فهنا أحد احتمالين:

إمّا أنّه يريد أن يزيد عليه المرض حتى يموت؛ أي إنّ لديه ميول انتحارية خفية، أو أنّ هذا المريض فاقد للقدرة على الاستبصار بمرضه وهنا يتدخل العقلاء المحيطون به لعلاجه رغماً عنه حتى لا يكون بؤرة مرضية ينشر المرض في المجتمع الإنساني.

العلاج لمرض خطير مثل الاستبداد لا يكون بالبخور، ولا يكون علاجاً شعبياً غامضاً، وإنما يكون علاجاً على أسس علمية يسير على محاور منها:

ـ إعلاء قيمة الحرية في النفوس:

أنّ موضوع الحرية لم يأخذ مكانه اللائق به في الفكر العربي والإسلامي، فلابد أن تنتشر ثقافة الحرية حتى لا يختزل الأمر إلى المستوى السياسي فقط كما يحدث دائماً.

إن المشكلة الأساسية في الإنسان هو التخلي بسهولة عن حريته واختياره لصالح الحظ والقدر، ويترك حياته تديرها الظروف والمتغيرات، فحيثما: يعتمد الجميع على الحظ أو التدخل الإلهي يتلاشى الفعل الجماعي، فربما تتمنى الجماعة أو الفرد لكنها غير قادرة على صنع مصيرها بيدها، وفي حالات نادرة إذا برز قائد منهم فسوف ترفضه الجماعة بسبب فقدان الثقة، وغياب القائد سيزيد من دائرة اليأس وعدم الثقة فيما بينهم، ولان القدري خائف من نفسه واستغلال الآخرين فسوف يفضل نظاماً سلطوياً مستبداً يفرض بالقوة، وهكذا فلا تبدو للمشاركة والمنافسة قيمة تذكر.

ان القدري في اغلب الأحيان يشعر بما يجري من حوله، ويدرك الحقائق ويحس بضراوة الاستبداد، لكنه يبقى عاجزاً في روحه خائفاً في قرارة نفسه لا يثق بها وبالآخرين، ويتشاءم من المستقبل ومن القدرة على إيجاد التغيير، ويرى ان الظروف فوق طاقته وطاقة الآخرين، لذلك يعتمد بشكل أساسي على المعجزة ويتمسك بشكل مطلق على الغيبيات ناسفاً كل دور لعقله وفكره وارادته، فهو يسير باتجاه الجبر بخضوع ذليل للاستبداد والدكتاتورية.

ـ إعلاء قيمة المساواة (المواطنة):

فالكل شركاء في الوطن، ولهم الحق في التفكير والتخطيط والتنفيذ لصالح هذا الوطن، ونقصد هنا بالكل كل الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ومعتقداتهم، وهذا هو أصل مبدأ التعايش السلمي الذي هو الضمان الوحيد لأمن وسلامة المجتمع، حيث أن التمييز العنصري واستبعاد أو تهميش أو إلغاء أي طائفة أو مجموعة يؤدي بالضرورة إلى نمو تيارات عدائية تهدد أمن واستقرار الوطن بأكمله، والتأكيد على أن الإسلام مع العدالة الاجتماعية ما قاله الإمام علي (عليه السلام) الناس: «... فإنهم صنفان إما أخ لك في الدَّين وإما نظير لك في الخلق...»[5]. تتضمن في طياتها قيمة العدل، فما دام الناس متساوون إذن فلهم الحقوق نفسها وعليهم نفس الواجبات.

ـ الإيمان بروح الفريق ومنظومات العمل:

قد عشنا دهراً نطرب للبطولات الفردية ونصفق لها ونصنع لها الملاحم (عنترة بن شداد، أبو زيد الهلالي، سيف بن ذي يزن)، وما زلنا نعمل بشكل فردي ونفتقد لروح الفريق ولمنظومات العمل، وقد أصبح واضحاً أن العمل كفريق والعمل من خلال منظومة يعتبر سراً من أسرار التقدم والحضارة، وأن الإنجازات الفردية مهما عظمت فلن تصنع أمة أو حضارة وإنما تصنع مجداً شخصياً لصاحبها، وربما بالإضافة لذلك صنعت منه مستبداً.

 


[1] عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي: ص439.

[2] الحشر: آية 7.

[3] التحفة العسجدية ـ يحيى بن الحسين: ص3.

[4] الأعراف: آية 157.

[5] نهج البلاغة: ج3، ص84.