مقدمة:
إنّ أول عمل قام به النبي محمدٌ(صلى الله عليه وآله) بعد هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، هو بناء مسجد قباء - أول مسجد في الإسلام - بيديه المباركتين، وما كان ذلك إلا لتبيان المكانة التي يجب أن يحتلها المسجد في حياة المسلمين لما له من أهمية في إعداد الإنسان وتقويمه، إذ أصبح المسجد ملتقى المسلمين ومنتدى حواراتهم فصار مشعلا وضّاءً وسراجا وهّاجاً يُنير دربهم، فقويت به أواصرهم، وذابت بواسطته الفوارق بينهم، وتعلّموا فيه ما يُهمّهم، وفوق ذلك كله فهو مكان أداء العبادة من الصلوات والاعتكاف، فمنه انطلق النبي الكريم(صلى الله عليه وآله) الى هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، إذ شع منه نور الهداية والصلاح، فأبدل ذلّهم عزا، وضعفهم قوة، وشقاوتهم سعادةً، فأصبح المسجد جامعة للهداية تخرّج منها العلماء والعظماء.
انتشرت المساجد في أغلب بقاع الأرض، وشُيّدت بكثرة في الدول الإسلامية، وكان العراق من بين تلك الدول التي شهدت بناء المساجد وعمارتها، ومن العراق نأخذ مدينة البصرة، التي أسس أول مسجد فيها مع تأسيسها عام 14هـ، ومنذ ذلك الحين بات عدد المساجد فيها يتزايد بشكل مستمر إلى يومنا هذا، ومن بين تلك المساجد التي عُرفت بقدمها مدينة البصرة، هو جامع الأبلة.
الموقع الجغرافي والتأسيس:
يقع المسجد في منطقة الأُبُلّة، الواقعة في شمال غرب المعقل في محافظة البصرة، وهو من المساجد البصرية القديمة، أسّسه العلامة السيد عبد الحكيم الصافي (طيب الله ثراه) عام ١٩٦٨ م، بمساعدة الخيرين من أهل البصرة، بعد ان تنبه السيد إلى انعدام وجود مسجد في منطقة الأبلة التي بنيت في عام ١٩٦١م فقرّر إنشاء المسجد، وسمّاه (جامع الأبلة)، فكان له الدور الكبير في نشر العلوم الثقافية والدينية والفقهية في المنطقة.
شُيّد الجامع مع ملحقاته على مساحة قدرت بعشرة آلاف متر مربع، ويتكون من حرم لإقامة الصلاة فيه، تتوسطه قبة كُتب فيها من الداخل آية الكرسي المباركة يعلوها لفظ الجلالة وأسماء المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام)، ويتخللها ثمانية شبابيك موزعة بقياسات متساوية فيما بينها على كل الجهات، تسمح لضوء الشمس أن ينفذ إلى المصلى، وفي اي موقع كانت خلال النهار. وفي جهة القبلة يكون محراب الصلاة، الذي صُمِّم بشكل هندسي رائع، وطُرِّز من وسطه بالآية المباركة (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)[1]. وقد كُسي بالكاشي الكربلائي، وبني إلى جانب الحرم ديوان واسع، ومكتبة عامرة بالدوريات والكتب القيمة، يُطلّان على باحة المسجد التي تُقدّر مساحتها بـ (.. ٢٥) مترا مربعا تقريبا، ومن تلك الباحة في الخارج يمكن النظر الى القبة التي توسطت الحرم وقد غُلفت من الخارج بالكاشي الكربلائي، ذي اللون الأخضر، يغشاها من الأعلى اللون الذهبي الذي أضاف جمالا لناظريها، وقد نقشت عليها أسماء المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام)، وتطلّ علينا من بين أروقة المسجد منارته الجميلة التي قد ارتفعت لتشق طريقها نحو السماء، بارتفاع (36مترا)، وقد طوّقت بحزامين وتوّجت بتاج اخضر، وزخرفت بنقوش إسلامية خط عليها سورة الإخلاص المباركةُ.
الأنشطة الفكرية والثقافية:
تقام في المسجد الكثير من الأنشطة الدينية والثقافية والندوات الفكرية، كصلاة الجماعة، وإحياء الشعائر الدينية كإقامة مجالس العزاء لأهل البيت (عليهم السلام) وإحياء ولاداتهم المباركة، والمحاضرات الثقافية، وبعض الدروس في الفقه والعقائد والقرآن، وقد تم افتتاح مدرسة تعنى بشؤون الفقه والقرآن وحفظه وتلاوته، سمّيت بمدرسة العلامة السيد عبد الحكيم، وتضم ما يقرب من (٢٥٠) طالباً يُقسَّمُونَ حَسب أعمارهم إلى ثلاث مجموعات، وقد خرَّجت كثيرا من الطلاب الذين كانت لهم مشاركات عديدة في المسابقات المحلية والوطنية، وتصدر - أيضاً - صحيفة باسم الجامع، تُعنى بالمسائل الدينية والاجتماعية، وبث الوعي بين أوساط المجتمع، وما زال التوجه قائما إلى إقامة المزيد من الأنشطة التي تخدم المجتمع البصري بمختلف شرائحه وطبقاته.
أبرز زواره:
زاره العديد من الشخصيات الدينية، وكان من أبرزها: سماحة آية الله العظمى الإمام السيّد علي السيستاني (دام ظله الوارف) عند عودته من رحلته العلاجية، والسيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) عند عودته من جمهورية إيران الإسلاميّة وزاره العديد من أصحاب الديانات الأخرى من المسيح والصابئة، وكذلك الشخصيات السياسية والاجتماعية، من القوميات والأديان والطوائف المختلفة.
أحداث ومواقف:
أُسّس في الجامع موكب حسيني كبير أيّام السّيّد عبد الحكيم الصافيK يخرج من جامع الأبلة ويشترك مع موكب المعقل في جامع المعقل المعروف بـ
(جامع السيد عبد الحكيم) في منطقة المعقل، وتعطَّل عمل هذا الموكب آنذاك، إذ كانت السلطات لا تسمح بإقامة الشعائر الحسينية، وخلال هذه الظروف القاسية قدّم الجامع العديد من الشهداء الشباب، وتعرض كثير من رواده للاعتقال، كما تعرّض الجامع لكثير من المضايقات والمراقبات الأمنية أيام النظام الصدامي البائد، إذ هُدمت منارته والقبة، وأحرقت مكتبة السيد (عبد الحكيم) أيام الانتفاضة الشعبانية المباركة من قبل اجهزة النظام آنذاك، وكانت المكتبة تضم نفائس الكتب والمخطوطات.
وعلى الرّغم من كل الصعوبات التي مرّت والضيم والحيف اللذين وقعا على جامع الأبلة منذ تأسيسه، وطال رواده من متولين ومصلين وخدمة، فانه ما يزال نبراساً يقتدى به، ومشعلا وضّاءً يهتدي به السائرون[2].
المصدر: بيوت المتقين (45) شهر رمضان 1438هـ