(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ([1].
بعد أن شن القرآن على الربا والاحتكار والبخل حرباً شعواء، وضع تعليمات دقيقة لتنظيم الروابط التجارية والاقتصادية، لكي تنمو رؤوس الأموال نمواً طبيعياً دون أن تعتريها عوائق أو تنتابها خلافات ومنازعات.
تضع هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تسعة عشر بنداً من التعليمات التي تنظم الشؤون المالية، نذكرها على التوالي:
1- إذا أقرض شخص شخصاً أو عقد صفقة، بحيث كان أحدهما مدينا، فلكي لا يقع أي سوء تفاهم واختلاف في المستقبل، يجب أن يكتب بينهما العقد بتفاصيله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)[2].
من الجدير بالذكر أنه يستعمل كلمة (دين) هنا ولا يستعمل كلمة (قرض)، وذلك لأن القرض هو تبادل شيئين متشابهين كالنقود أو البضاعة التي يقترضها المقترض ويستفيد منها، ثم يعيد نقوداً أو بضاعة إلى المقرض مثلا بمثل. أما (الدين) فأوسع معنى، فهو يشمل كل تعامل، مثل المصالحة والإيجار والشراء والبيع وأمثالها، بحيث إن أحد الطرفين يصبح مديناً للطرف الآخر. وعليه فهذه الآية تشمل جميع المعاملات التي فيها دين يبقى في ذمة المدين، بما في ذلك القرض.
2- لكي يطمئن الطرفان على صحة العقد ويأمنا احتمال تدخل أحدهما فيه، فيجب أن يكون الكاتب شخصاً ثالثاً: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ).
على الرغم من أن ظاهر الآية يدل على وجوب كتابة العقد، يتبين من الآية التالية فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته، أن لزوم الكتابة يتحقق إذا لم يطمئن الطرفان أحدهما إلى الآخر واحتمل حصول خلافات فيما بعد.
3- على كاتب العقد أن يقف إلى جانب الحق، وأن يكتب الحقيقة الواقعة: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ).
4- يجب على كاتب العقد، الذي وهبه الله علماً بأحكام كتابة العقود وشروط التعامل، أن لا يمتنع عن كتابة العقد، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا الأمر الاجتماعي: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ).
إن تعبير: (كَمَا عَلَّمَهُ الله)، حسب التفسير المذكور للتوكيد ولزيادة الترغيب.
ويمكن القول إنه يشير إلى أمر آخر، وهو ضرورة التزامه الأمانة، وأن يكتب العقد، كما علمه الله، كتابة متقنة.
بديهي أن قبول الدعوة إلى تنظيم العقود ليست واجباً عينياً، كما يتضح من قوله سبحانه: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا).
5- على أحد الطرفين أن يملي تفاصيل العقد على الكاتب. ولكن أي الطرفين؟ تقول الآية: المدين الذي عليه الحق: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ).
من المتفق عليه أن التوقيع المهم في العقد هو توقيع المدين، ولذلك فإن العقد الذي يكتب بإملائه يعتبر مستمسكاً لا يمكنه انكاره.
6- على المدين عند الإملاء أن يضع الله نصب عينيه، فلا يترك شيئا إلا قاله ليكتبه الكاتب: (وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا).
7- إذا كان المدين واحداً ممن تنطبق عليه صفة (السفيه)، وهو الخفيف العقل الذي يعجز عن إدارة أمواله ولا يميز بين ضرره ومنفعته، أو (الضعيف) القاصر في فكره والضعيف في عقله المجنون، أو (الأبكم والأصم) الذي لا يقدر على النطق، فإن لوليه أن يملي العقد فيكتب الكاتب بموجب إملائه (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ).
8- على (الولي) في الإملاء والاعتراف بالدين، أن يلتزم العدل وأن يحافظ على مصلحة موكله، وأن يتجنب الابتعاد عن الحق (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).
9- بالإضافة إلى كتابة العقد، على الطرفين أن يستشهدا بشاهدين: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ).
10 و11- يجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين وهذا يستفاد من عبارة: (مِنْ رِجَالِكُمْ) أي: ممن هم على دينكم.
12- يجوز اختيار شاهدتين من النساء وشاهد من الرجال: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ).
13- لابد أن يكون الشاهدان موضع ثقة ممن ترضون من الشهداء. يتبين من هذه الآية أن الشهود يجب أن يكونوا ممن يطمأن إليهم من جميع الوجوه، وهذه هي (العدالة) التي وردت في الأخبار أيضاً.
14- وإذا كان الشاهدان من الرجال، فلكل منهما أن يشهد منفرداً. أما إذا كانوا رجلا واحداً وامرأتين، فعلى المرأتين أن تدليا بشهادتهما معا لكي تذكر إحداهما الأخرى إذا نسيت شيئا أو أخطأت فيه.
أما سبب اعتبار شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، فهو لأن المرأة كائن عاطفي وقد تقع تحت مؤثرات خارجية، لذلك فوجود امرأة أخرى معها يحول بينها وبين التأثير العاطفي وغيره: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى).
15- ويجب على الشهود إذا دعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير ولا عذر كما قال: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا). وهذا من أهم الأحكام الإسلامية ولا يقوم القسط والعدل إلا به.
16- تجب كتابة الدين سواء أكان الدين صغيراً أو كبيراً، لأن الإسلام يريد أن لا يقع أي نزاع في الشؤون التجارية، حتى في العقود الصغيرة التي قد تجر إلى مشاكل كبيرة: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ). والسأم: هو الملل من أمر لكثرة لبثه.
وتشير الآية هنا إلى فلسفة هذه الأحكام، فتقول إن الدقة في تنظيم العقود والمستندات تضمن من جهة تحقيق العدالة، كما أنها تطمئن الشهود من جهة أخرى عند أداء الشهادة، وتحول من جهة ثالثة دون ظهور سوء الظن بين أفراد المجتمع: (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا).
17- إذا كان التعاقد نقداً فلا ضرورة للكتابة: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا).
«التجارة الحاضرة» تعني التعامل النقدي، و«تديرونها» تعني الجارية في التداول لتوضيح معنى التجارة الحاضرة. وتعبير: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) يعني: ليس هناك ما يمنع من كتابة العقود النقدية أيضا، وهو خير، لأنه يزيل كل خطأ أو اعتراض محتملين فيما بعد.
18- في المعاملات النقدية وإن لم تحتج إلى كتابة عقد، لابد من شهود: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ).
19- وآخر حكم تذكره الآية هو أنه ينبغي ألا يصيب كاتب العقد ولا الشهود أي ضرر بسبب تأييدهم الحق والعدالة: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ). والفعل «يضار» يعني - كما فسرناه- أن لا يصيب الكتاب والشهود ضرر، أي أنه مجهول. ولا حاجة إلى تفسيره بأنه يعني أن لا يصدر من الكاتب والشهود ضرر في الكتابة والشهادة، بعبارة أخرى لا حاجة إلى اعتباره فعلاً معلوماً، لأن هذا التأكيد ورد في فقرة سابقة من الآية.
ثم تقول الآية إنه إذا آذى أحد شاهداً أو كاتباً لقوله الحق فهو إثم وفسوق يخرج المرء من مسيرة العبادة لله: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ).
وفي الختام، وبعد كل تلك الأحكام، تدعو الآية الناس إلى التقوى وامتثال أمر الله: (وَاتَّقُوا الله)، ثم تقول إن الله يعلمكم كل ما تحتاجونه في حياتكم المادية والمعنوية: (وَيُعَلِّمُكُمُ الله) وهو يعلم كل مصالح الناس ومفاسدهم ويقرر ما هو الصالح لهم: (وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
آثار وأحكام:
1- إن الأحكام الدقيقة المذكورة في هذه الآية لتنظيم الاسناد والمعاملات وذكر الجزئيات أيضاً في جميع المراحل في أطول آية من القرآن الكريم يبين الاهتمام الكبير الذي يليه القرآن الكريم بالنسبة للأمور الاقتصادية بين المسلمين وتنظيمها، وخاصة مع الالتفات إلى أن هذا الكتاب قد نزل في مجتمع متخلف إلى درجة أن القراءة والكتابة كانتا سلعة نادرة جداً، وحتى أن النبي(صلى الله عليه وآله) وهو صاحب القرآن لم يكن قد درس شيئاً ولم يذهب إلى مدرسة أو مكتب، وهذا بنفسه دليل على عظمة القرآن من جهة، وأهمية النظام الاقتصادي للمسلمين من جهة أخرى.
يقول (علي بن إبراهيم) في تفسيره المعروف: جاء في الخبر أن في سورة البقرة خمسمائة حكم إسلامي وفي هذه الآية ورد خمسة عشر حكماً.
وكما رأينا أن عدد أحكام هذه الآية يصل إلى تسعة عشر حكماً، بل أننا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الأحكام الضمنية لها فسيكون عدد الأحكام أكثر إلى حد أن الفاضل المقداد استفاد منها في كتابه (كنز العرفان) واحداً وعشرين حكماً بالإضافة إلى الفروع المتعددة الأخرى، فعلى هذا يكون قوله بأن عدد أحكام هذه الآية خمسة عشر حكما إنما هو بسبب إدغام بعض أحكام هذه الآية بالبعض الآخر.
2- إن جملة: (وَاتَّقُوا الله) وجملة: (وَيُعَلِّمُكُمُ الله) رغم أنهما ذكرتا في الآية بصوره مستقلة وقد عطفت إحداهما على الأخرى، ولكن اقترانهما معاً إشارة إلى الارتباط الوثيق بينهما، ومفهوم ذلك هو أن التقوى والورع وخشية الله لها أثر عميق في معرفة الإنسان وزيادة علمه واطلاعه.
أجل عندما يتطهر قلب الإنسان من الشوائب بوسيلة التقوى فسيغدو كالمرآة الصافية تعكس الحقائق الإلهية، وهذا المعنى لا شك فيه ولا إشكال من جانبه المنطقي، لأن الصفات الخبيثة والأعمال الذميمة تشكل حجباً على فكر الإنسان ولا تدعه يرى وجه الحقيقة كما هي عليه، وعندما يقوم الإنسان بإزاحة هذه الحجب بوسيلة التقوى فإن وجه الحق سيظهر ويتجلى.
ولكن بعض الصوفيين الجهلاء أساءوا الاستفادة من هذا المعنى وجعلوه دليلا على ترك تحصيل العلوم الرسمية في حين أن هذا الكلام يخالف الكثير من آيات القرآن والروايات الإسلامية الشريفة.
والحق أن بعض العلوم يجب اكتسابها عن طريق العلم والتعلم بالشكل السائد والمتعارف، وقسم آخر من العلوم الإلهية لا تتحصل للإنسان إلا بوسيلة تزكية القلب وتصفية الباطن بماء المعرفة والتقوى، وهذا هو النور الذي ورد في الروايات أن الله يقذفه في قلب من يليق بهذه الكرامة: «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء»[3].
مجلة بيوت المتقين العدد (95 ـ 96)