موقع تبوك:
تبوك هي أقصى موضع بلغه رسول الله(صلى الله عليه وآله) في غزواته، وهي في طرف الشام من جهة القبلة، وبينها وبين المدينة المشرَّفة اثنتا عشرة مرحلة[1]، وتبعد تبوك عن المدينة سبع مئة كيلو متر، وهي الآن مدينة قرب الحدود السعودية الأردنية، وتبعد عن عَمَّان أربع مئة وخمسين كيلو متراً، وعن الشام نحو ذلك، وقد أقام النبي(صلى الله عليه وآله) في تبوك نحو عشرين يوماً وأرسل إلى هرقل رسالة أو أكثر وتلقى جوابها[2].
تاريخ الغزوة ومدتها:
كانت غزوة تبوك في 3 رجب سنة 9هـ قبل حجة الوداع، وكانت أول غزواته(صلى الله عليه وآله) بدر، وآخرها غزوة تبوك قبيل وفاته(صلى الله عليه وآله)، واستغرقت ثمانين يوماً ولم يقع فيها حرب، لأن الروم انسحبوا من تبوك عندما توجه إليهم، ووقع الأكيدر ملك الدومة في الأسر، فكتب النبي(صلى الله عليه وآله) معه صلحاً.
سبب الغزوة:
في السنة التاسعة للهجرة بلغ النبي(صلى الله عليه وآله) أن الدولة الرومية تستعد لغزو البلاد الإسلامية، فاستنفر(صلى الله عليه وآله) المسلمين في المدينة المنورة وخارجها، فاستجاب له المسلمون آنذاك إلا المنافقين ومن أظهر الإسلام خوفاً لا إيماناً، كبعض الذين أسلموا في فتح مكة ممن سمّاهم النبي(صلى الله عليه وآله) الطلقاء، فإنهم تخلفوا عنه(صلى الله عليه وآله)، وكان شعار المسلمين في معركة تبوك (يا أحد يا صمد)[3].
لماذا تخلّف الإمام علي(عليه السلام):
كان النبي(صلى الله عليه وآله) يصطحب المنافقين معه عند خروجه الى الحرب وذلك لإفشال مؤامراتهم ورد كيدهم، ولمّا تخلف المنافقون عن الخروج إلى غزوة تبوك ولّد هذا الشيء عند النبي(صلى الله عليه وآله) الشعور بأن تخلفهم يحمل في طياته خطرا جسيما، لذا اضطر(صلى الله عليه وآله) إلى إبقاء خليفته ووصيه ومن هو بمنزلة هارون من موسى منه في المدينة.
من وحي حديث المنزلة:
من الأمور المهمة التي ارتبطت بغزوة تبوك حديث المنزلة وهو قول النبي(صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين(عليه السلام)، أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وهذا الحديث فيه من الدلالة الواضحة على تنصيب الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) خليفة ووصيا وقائدا للأمة الإسلامية بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله)، فدلالته واضحة (بأن لأمير المؤمنين(عليه السلام) جميع منازل هارون من موسى إلا منزلة النبوة، واستثناء النبوة دليل العموم لجميع المنازل، ومن الواضح: أن أظهر خصوصية كانت بين هارون وموسى هي أخوّته له، وشد أزره، ووجوب طاعته، ووزارته، وشراكته في أمره، وكونه أولى الناس به حياً وميتاً، حسبما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾[4]، فلا بد أن يراد بكونه بمنزلته هو هذه الخصوصيات، ولا سيما هاتان الخصوصيتان)[5].
وقد يقول قائل: إن حديث المنزلة خاص بفترة تبوك ولا ربط له بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله). ويمكن الإجابة على ذلك بأنه إذا كان هذا المعنى المراد من الحديث فهذا يؤدي إلى التناقض في حديثه (صلى الله عليه وآله) وحاشا أن يكون كذلك، فإذا كان يريد هذا المعنى فقط فكان عليه أن يقول(إلا انه لا نبي معي) ولا يقول(انه لا نبي بعدي)، هذا أولا، وثانيا، نجد أن النبي(صلى الله عليه وآله) استخلف على المدينة عدة من الأشخاص عند خروجه في غزواته كغزوة الفتح وخيبر وبدر وغيرها، فلم يجعل لهم هذه المنزلة التي جعلها للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).
لماذا هذا الوقت:
لعل اختيار النبي(صلى الله عليه وآله) وقت هذه الغزوة له عدة دلالات، والتي منها: اختبار الصحابة، وإظهار كوامن النفوس، وفضح النوايا الخبيثة لشريحة من المنافقين الذين يتربصون بالإسلام وبالمسلمين شرا.
قال العاملي في الصحيح من السيرة: لعل الأصح هو أنه(صلى الله عليه وآله) قد أراد فيما أراد: أن يفضح حقيقة نوايا تلك الطغمة التي تتربص بالإسلام وبالمسلمين شراً، وهذا ما أشار إليه الشيخ المفيد حيث قال عن تبوك: (فأوحى الله تبارك وتعالى اسمه إلى نبيه(صلى الله عليه وآله): أن يسير إليها بنفسه، ويستنفر الناس للخروج معه، وأعلمه أنه لا يحتاج فيها إلى حرب، ولا يمنى بقتال عدو، وأن الأمور تنقاد له بغير سيف، وتعبَّده بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم، ليتميزوا بذلك، وتظهر به سرائرهم، فاستنفرهم النبي(صلى الله عليه وآله) إلى بلاد الروم، وقد أينعت ثمارهم، واشتد القيظ عليهم، فأبطأ أكثرهم عن طاعته، رغبة في العاجل، وحرصاً على المعيشة وإصلاحها، وخوفاً من شدة القيظ، وبعد المسافة، ولقاء العدو، ثم نهض بعضهم على استثقال للنهوض، وتخلف آخرون...)[6].
يمكرون ولكن...!:
جاء في الصحيح من السيرة للعاملي: (قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): ولقد اتخذ المنافقون من أمة محمد(صلى الله عليه وآله) وبعد انطلاق محمد(صلى الله عليه وآله) إلى تبوك، أبا عامر الراهب أميراً ورئيساً، وبايعوا له، وتواطأوا على إنهاب المدينة، وسبي ذراري رسول الله(صلى الله عليه وآله) وسائر أهله وصحابته، ودبروا التبييت على محمد، ليقتلوه في طريقه إلى تبوك، فأحسن الله الدفاع عن محمد(صلى الله عليه وآله)،
وفضح المنافقين وأخزاهم، وذلك أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: (لتسلكن سبل من كان قبلكم، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضبّ لدخلتموه) قالوا: يا ابن رسول الله...، وماذا كان هذا التدبير؟! فقال(عليه السلام): اعلموا أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل، وكان ملك تلك النواحي، له مملكة عظيمة مما يلي الشام، وكان يهدد رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأنه يقصده، ويقتل أصحابه، ويبيد خضراءهم، وأكثَر المنافقون الأراجيف والأكاذيب، وجعلوا يتخللون أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله)، ويقولون: إن أكيدر قد أعد من الرجال كذا، ومن الكراع كذا، ومن المال كذا، حتى آذى ذلك قلوب المؤمنين، فشكوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ما هم عليه من الخدع، ثم إن المنافقين اتفقوا، وبايعوا أبا عامر الراهب الذي سماه رسول الله(صلى الله عليه وآله) الفاسق، وجعلوه أميراً عليهم، وبخعوا له بالطاعة، فقال لهم: الرأي أن أغيب عن المدينة، لئلا أتهم بتدبيركم، وكاتبوا أكيدر في دومة الجندل، ليقصد المدينة، ليكونوا هم عليه، وهو يقصدهم فيصطلموه، فأوحى الله إلى محمد(صلى الله عليه وآله)، وعرَّفه ما اجتمعوا عليه من أمرهم، وأمره بالمسير إلى تبوك، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا أراد غزواً ورَّى بغيره إلا غزاة تبوك، فإنه أظهر ما كان يريده، وأمرهم أن يتزودوا لها، وهي الغزاة التي افتضح فيها المنافقون، وذمهم الله تعالى في تثبيطهم عنها، وأظهر رسول الله(صلى الله عليه وآله) ما أوحي إليه أن (الله) سيظفره بأكيدر، حتى يأخذه ويصالحه. فقال لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إن موسى وعد قومه أربعين ليلة، وإني أعدكم ثمانين ليلة، ثم أرجع سالماً غانماً، ظافراً بلا حرب يكون، ولا أحد يستأسر من المؤمنين)، واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها: بعضهم يعتلّ بالحر، وبعضهم بمرض يجده، وبعضهم بمرض عياله، وكان يأذن لهم)[7].
مسجد الضرار:
لما صح عزم رسول الله(صلى الله عليه وآله) على الرحلة إلى تبوك عمد هؤلاء المنافقون فبنوا مسجداً خارج المدينة وهو مسجد الضرار، يريدون الاجتماع فيه، ويوهمون أنه للصلاة، وإنما كان ليجتمعوا فيه لعلة الصلاة، فيتم لهم به ما يريدون، ثم جاء جماعة منهم إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقالوا: يا رسول الله إن بيوتنا قاصية عن مسجدك وإنا نكره الصلاة في غير جماعة، ويصعب علينا الحضور، وقد بنينا مسجداً، فإن رأيت أن تقصده تصلي فيه لنتيمَّن ونتبرك بالصلاة في موضع مصلاك، فلم يعرّفهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) ما عرّفه الله من أمرهم ونفاقهم، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أنا على جناح سفر، فأمهلوا حتى أرجع إن شاء الله تعالى، ثم أنظر في هذا نظرا يرضاه الله تعالى)، وجدَّ في العزم على الخروج إلى تبوك، وعزم المنافقون على اصطلام مخلّفيهم إذا خرجوا، فأوحى الله تعالى إليه: (يا محمد، إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك: إما أن تخرج أنت ويقيم علي، وإما أن يخرج علي وتقيم أنت)، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (ذاك لعلي)، فقال علي(عليه السلام): السمع والطاعة لأمر الله وأمر رسوله، وإن كنت أحب أن لا أتخلف عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حال من الأحوال، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟! فقال: رضيت يا رسول الله، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): (يا أبا الحسن! إن لك أجر خروجك معي في مقامك بالمدينة، وإن الله قد جعلك أمة وحدك، كما جعل إبراهيم أمة، تمنع جماعة المنافقين والكفار هيبتك عن الحركة على المسلمين)، فلما خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله) وشيعه علي(عليه السلام) خاض المنافقون وقالوا: إنما خلفه محمد بالمدينة لبغضه له، وملاله منه، وما أراد بذلك إلا أن يبيته المنافقون فيقتلوه، ويحاربوه فيهلكوه، فاتصل ذلك برسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقال علي(عليه السلام): تسمع ما يقولون يا رسول الله؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أما يكفيك أنك جلدة ما بين عيني، ونور بصري، وكالروح في بدني)، ثم سار رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأصحابه، وأقام علي(عليه السلام) بالمدينة، وكان كلما دبر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين فزعوا من علي(عليه السلام)، وخافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك، وجعلوا يقولون فيما بينهم: هي كرة محمد التي لا يؤوب منها[8].
الرجوع إلى المدينة المنورة:
ثم كرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) راجعاً إلى المدينة إلى إبطال كيد المنافقين في نصب ذلك العجل الذي هو أبو عامر، الذي سماه النبي(صلى الله عليه وآله) الفاسق، وعاد رسول الله(صلى الله عليه وآله) غانماً ظافراً، وأبطل الله كيد المنافقين، وأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) بإحراق مسجد الضرار، وأنزل الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[9].
[1] معجم البلدان، الحموي: ج2، ص15 وكتاب العين، الخليل الفراهيدي: ج5، ص 342.
[2] جواهر التاريخ، الشيخ الكوراني: ج3، ص102.
[3] الصحيح من سيرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج22، ص105.
[4] سورة طه: آية29- 32.
[5] الصحيح من سيرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج29، ص270.
[6] الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج29، ص139.
[7] الصحيح من سيرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج30، ص154.
[8] الصحيح من سيرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج30، ص156.
[9] سورة التوبة: آية107.