قصةُ موسى (عليه السلام) وابنتيْ شعيبٍ (عليه السلام)

تبدأ القصة بخروج موسى (عليه السلام) من مصر وتوجهه إلى مدين بعد أن قتل القبطي، لقد أمضى عدّة أيّام في طريق لم يكن له بها معرفة من قبل، بغير زاد ولا ماء، وكما يقول بعضهم: (اضطر موسى إلى أن يمشي في هذا الطريق حافياً)، وقيل: (إنّه قطع الطريق في ثمانية أيّام، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب، وتسلّخت قدماه من كثرة المشي وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعاً لجوعه، وليس له أمام مشاكل الطريق وأتعابه إلاّ قلبه المطمئن بلطف الله تعالى الذي خلّصه من مخالب الفراعنة وكان دعاؤه من الله أن يهديه الطريق الصحيح: (... عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)[1].

واستجاب الله دعوته، وبدأت معالم «مدين» تلوح له من بعيد شيئاً فشيئاً، ولما اقترب عرف بسرعة أنّهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم.

وفيما كان يستريح في ظل شجرة، وقد أخذ منه التعب مأخذه سمع ضجيجاً، ورأى مشهداً حرّك فيه حسّ الشهامة والمروءة؛ شاهد جمعاً من الرجال الأشدّاء يزدحمون حول الماء، يسقون أغنامهم، ولا يفسحون المجال لأحد، وكانت هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم، وعليهما آثار العفّة والشرف وكانتا تمنعان أغنامهما من الورود، يقول القرآن في هذا الصدد: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ...)[2].

لم يَرُق لموسى (عليه السلام) أن يرى هذا الظلم، وهذا العمل المخالف للأخلاق والعدل؛ لذا توجّه إليهما وسألهما بكل تهذيب: (مَا خَطْبُكُمَا) وباختصار، وبدون إطالة بالكلام مع الرجل الغريب أجابتا: (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ)، ومن أجل أن لا يستمر الحوار، ويسأل موسى: أليس لكما رجل يكفيكما مؤونة هذا العمل الشاق؟ أضافتا مكملتين كلامهما (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)[3]، فلا هو يستطيع أن يسقي الأغنام، وليس عندنا أخ يعينه على الأمر فلا حيلة لنا إلاّ أن نقوم نحن بهذا العمل.

فتأثر موسى (عليه السلام) عند سماعه حديثهما بشدة، وثارت نخوته؛ فتقدم وأخذ الدلو وألقاها في البئر رغم تعبه ومسيره الطويل، ورغم جوعه وغربته وهروبه من أعدائه.

تقول بعض الروايات أنه رفع لأجلهما حجراً عن بئر كان لا يقدر على رفع ذلك الحجر إلا عشرة رجال، ويقال: إنّ موسى (عليه السلام) حين اقترب من البئر لامَ الرعاء، قال: أيّ أناس أنتم لا همّ لكم إلاّ أنفسكم! وهاتان البنتان جالستان؟ ففسحوا له المجال وقالوا له باستهزاء: هلمّ واملأ الدلو، لأنهم كانوا يعلمون أن هذه الدلو حين تمتلئ لا يستخرجها من البئر إلاّ عشرة رجال، إلاّ أن موسى عليه السلام استخرجها بقوته وهمّته ـ وحده ـ دون أن يعينه أحد[4].

وبعد انصرافهما عاد إلى مكانه في ظل الشجرة يدعو: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[5]، لقد كان مؤدباً في دعائه فلا يقول: ربّ إنّي أريد كذا وكذا، بل يقول: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، أي: إنّه يكشف عن حاجته فحسب، ويترك الباقي إلى لطف الله سبحانه، وكما ورد في الروايات عن الإمام علي (عليه السلام): (والله ما سأله إلا خبزاً يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض لقد كانت خضرة البقلة ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه)[6].

رجوع الفتاتين بسرعة إلى أبيهما خلاف ما اعتادتا عليه كل يوم أثار استغرابه فقصتا عليه قصة الشاب الشهم الذي ساعدهما بلا مقابل؛ لذا بعث إحدى ابنتيه لتستدعيه، فجاءت تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة، ما أجمله من وصف، فكأنها من شدة حيائها لم تمشِ على قدميها بل على حيائها! وجاءت كلمة (استحياء) بصيغة التنكير للتفخيم، وقيل إنها كانت تمشي عادلة عن الطريق، يقول القرآن الكريم: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)[7]، كان يبدو علــيها بوضوح أنّها تستحي من الكلام مع شاب غريب اضطرتها الظروف للحديث معه مرتين؛ فكانت معرضة في الكلام كما تفعل كل حرة تتصف بالحياء ولم تزد الكلام على جملة واحدة: (.. قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا.. )[8].

جملة (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) جعلت موسى (عليه السلام) يتردد في الذهاب معها وكره ذلك لأنه لا يحب أن يتلّقى أجراً على معروف قام به بدافع الشهامة وطلباً للأجر، ولكنه فكر في وضعه وهو غريب جائع وفي بلدة ليس له فيها مأوى، ولابد أن هذا الرجل الذي يريد مجازاة من قدّم له خدمة - ولو صغيرة - لابد أنه رجل منصف وكريم.

وفي الطريق إلى البيت كانت الفتاة تسير أمام موسى، وكان الهواء يحرّك ثيابها وربّما انكشف ثوبها عنها، ولكن موسى لما عنده من عفة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير هو أمامها، فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي، تقول الروايات أنه قال لها: (وجهيني إلى الطريق وامشي خلفي فإنّا بني يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء)[9].

ولأن صنائع المعروف لا تضيع عند الله، فإن العمل الصغير الذي قام به موسى (عليه السلام) فتح له فصلاً جديداً، وهيأ له عالماً عجيباً من البركات المادية والمعنوية، وأدخله ضيفاً في بيت نبي من أنبياء الله تعالى، منزل شعيب (عليه السلام) المنزل الذي يسطع منه نور النبوّة، ومن خلال الحوار الذي دار بينهما عرف النبي شعيب )عليه السلام( قصة موسى وما الذي أوصله إلى مدين، يقول القرآن في هذا الصدد: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[10]، فأرضنا بعيدة عن سيطرة الظالمين وسطوتهم ولا تصل أيديهم إلينا، فلا تقلق ولا تشعر بالوحشة، فأنت في مكان آمن.

الحياء لا يأتي إلا بخير:

قوة موسى (عليه السلام) وعفته وأمانته لفتت نظر إحدى ابنتي شعيب (عليه السلام)؛ لاحظت قوته وهو يُنحّي الرعاء عن البئر ويملأ القربة الثقيلة وحده ويطالب بحق المظلوم، وأمّا أمانته  فقد اتّضحت لها منذ أن سارت أمامه إلى بيت أبيها، فطلب منها أن تتأخر ويتقدمها، لئلا تضرب الريح ثيابها لذا بادرت أباها بالقول وبعبارة موجزة: إنّني أقترح أن تستأجره (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)[11].

هذه البنت التي تربّت في حجر النّبوة تحدّثت ببساطة، وبلا تكلف واصطناع وبأقل العبارات، إن الحياء لم يمنعها من أن تقترح اقتراحا ذكياً فيه مصلحتها ومصلحة عائلتها، فالحياء في بعض الموارد يكون سلبياً؛ فعن الإمام علي عليه السلام: (الحياء يمنع الرزق)[12]، فلو لم تتكلم ابنة شعيب (عليه السلام) في الوقت المناسب لما حظيت بزوج نبي من أنبياء أولي العزم.

وافق شعيب (عليه السلام) على اقتراح ابنته، وتوجه إلى موسى: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنْ الصَّالِحِينَ)[13].

وبهذه البساطة التي تعبر عن الإيمان والتواضع والقناعة، أصبح موسى (عليه السلام) صهراً لشعيب، فليس معيباً عندما يجد الأب شخصاً لائقاً وجديراً أن يقترح عليه الزواج من ابنته.

من هذه القصة الجميلة والمؤثرة نستخلص دروساً كثيرة، أهمها إن المرأة إذا اضطرتها الظروف للعمل بجوّ فيه اختلاط مع الرجال الأجانب يمكنها أن تحافظ على حيائها وعفتّها، وتراقب كلامها ومشيتها وسائر تصرفاتها، فلا تزاحم الغرباء، ولا تطيل معهم الكلام بل تتكلم باختصار وبما يفي بالغرض ومن دون ميوعة وإيحاءات باطلة وكما يقول القرآن: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ..)[14]، هكذا يعلمنا القرآن بقصصه المليئة بالدروس والعبر، وكما وصفها الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ)[15].

 


[1] سورة القصص: آية 22، تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي: ج12، ص209.

[2] سورة القصص آية :23.

[3] سورة القصص: آية 22.

[4] بحار الأنوار للمجلسي: ج13، ص20.

[5] سورة القصص: آية 24.

[6] نهج البلاغة خطب أمير المؤمنين عليه السلام: ج2، ص57.

[7] سورة القصص: آية 25.

[8] سورة القصص: آية 25. 

[9] بحار الأنوار للمجلسي: ج13، ص41.

[10] سورة القصص: آية 25.

[11] سورة القصص: آية 26.

[12] ميزان الحكمة محمد الريشهري: ج1، ص718.

[13] سورة القصص: آية27.

[14] سورة الأحزاب: آية 32.

[15] سورة يوسف: آية 111.