للنقاش والجدال والمناظرة أحكام قد بينتها آيات القرآن الكريم كقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[1]، والسنة النبوية الشريفة أشارت لها، ودوّن أحكامها الفقهاء الأعلام رضوان الله تعالى عليهم، وقد أُستمد هذا كله من علم أهل البيت (عليهم السلام) فهم باب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وشيعتهم تعلّموا منهم أسلوب النقاش والمناظرة، والرد والأخذ فنراهم متفوقين تارة في مناظراتهم ومفحمين أخرى وكأن مناظراتهم مع مناوئيهم إلهام من الله وتسديد من الأئمة صلوات الله عليهم.
ويروى أن الشيخ الصدوق كان مجالسا لركن الدولة ابن بويه الديلمي يوما فسأل ركن الدولة الشيخ الصدوق: قد اختلف القوم فمنهم من طعن بالشيعة ومنهم من لم يقبل الطعن فيهم، فما قولك أنت.
فقال الشيخ الصدوق: إن الله لم يقبل من عباده الإقرار بتوحيده حتى ينفوا كل إله عُبد دونه، ألا ترى أنه أمرهم بنطق كلمة لا إله إلا الله فـ (لا إله) وهو نفي كل إله سابق اعتنقوه وعبدوه دون الله، و(إلا الله) إثبات له سبحانه وكذا لم يقبل الإقرار من العباد بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) حتى نفوا كل من تمثّل بنبي كمسيلمة وسجاح والأسود العنسي وأشباههم، وهكذا لا يقبل القول بإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلا بعد نفي كل من نصب نفسه إماما للأمة وإن اجتمعوا معه دونه.
فقال ركن الدولة ابن بويه: هذا هو الحق.
وكان في المجلس رجل يقال له أبو القاسم فاستأذن الملك في الكلام فأُذن له.
فقال أبو القاسم للصدوق: يا شيخ كيف يمكن أن تجتمع الأمة على الضلالة مع قول النبي (صلى الله عليه وآله): (أمتي لا تجتمع على ضلالة).
فقال الصدوق: يجب أن نعرف ما معنى كلمة الأمة في الحديث لأن الأمة في اللغة هي الجماعة وقيل أقل الجماعة ثلاثة فقال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)[2]، فسمى سبحانه وتعالى شخصا واحدا أمة، فيمكن أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) قصد بالحديث علياً (عليه السلام) ومن تبعه.
فقال أبو القاسم: بل عني سواهم من هم أكثر عدداً.
فقال الصدوق: وجدنا الكثرة مذمومة في كتاب الله، والقلة محمودة ففي قوله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ)[3].
فقال الملك: لا يجوز معارضة الكثرة مع قرب العهد بموت النبي (صلى الله عليه وآله).
فقال الصدوق: وكيف لا يجوز مع قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ.. أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)[4]، وليس ارتدادهم بأعجب من ارتداد بني إسرائيل حينما ذهب موسى (عليه السلام) لميقات ربه، فأستخلف أخاه هارون، والعود إليهم بعد ثلاثين ليلة فأتمها الله بعشر، فلم يصبروا إلى أن خرج فيهم السامري وصنع لهم عجلاً وقال: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى)[5]، واستضعفوا هارون وأطاعوا السامري في عبادة العجل، فرجع موسى وقال: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي)[6]، وإذا جاز على بني إسرائيل وهم أمة نبي من أولي العزم أن يرتدّوا بغيّبة نبيهم عنهم بزيادة أيام حتى خالفوا وصيّه هارون، وكذا فعل أبو بكر بعد النبي (صلى الله عليه وآله) من اغتصاب ما كان حقا لمن أوصى به (صلى الله عليه وآله) وهو عليّ (عليه السلام) بغيّبة لم تتجاوز السويعات وكيف لا يكون عليّ (عليه السلام) معذورا في ترك قتال سامري هذه الأمة وقد كان من النبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعده.
فقال الملك: أحسنت وأجدت.
فقال الشيخ الصدوق: زعم القائلون بإمامة سامري هذه الأمة إن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يستخلف بعده شخصاً فاستخلفوا أبا بكر، فإن كان ما فعله النبي (صلى الله عليه وآله) بزعمهم حقا، فالذي أتته الأمة من الاستخلاف باطل، وإن كان الذي أتته الأمة صوابا، فالذي فعله النبي (صلى الله عليه وآله) خطأ، فمن أولى بارتكاب الخطأ الأمة أم النبي (صلى الله عليه وآله).
فقال ركن الدولة ابن بويه: قطعا من يدّعون أنهم أمة.
فقال الصدوق: وكيف للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يخرج من الدنيا ولا يوصي بأمر أمته لمن يخلفه فيها ويرعى مصالح العباد، ونحن نعيب على من مات وترك مسحاة وفأسا ولم يوصي بهما لمن بعده.
فقال ابن بويه الديلمي: نعم الرأي.
فقال الصدوق: زعموا أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يستخلف علياً (عليه السلام) فخالفوا النبي (صلى الله عليه وآله) باستخلافهم لأبي بكر وهو من استخلف عمر ثم لم يتأس عمر بأبي بكر ولا بالنبي (صلى الله عليه وآله) عندما جعل الأمر شورى في أنفار معدودة.
فقال ركن الدولة: أُقر ومن معي بهذا الكلام وأقسم عليك بالإكثار من مجالستي.
وأكرم ركن الدولة الديلمي الشيخ الصدوق وأجزل له العطاء.
مجلة اليقين، العدد (47)، الصفحة (8 - 9).