أصبح واضحاً مما تقدم أن الانتظار بالمعنى الصحيح لا يعني الاسترخاء، بل يعني القيام وتهيئة الظروف فكرياً وعملياً لخروج الحجة (عجل الله فرجه الشريف)، حتى إذا ما خرج صاحب الأمر نكون مهيأين لتأدية هذا الدور بين يديه (عجل الله فرجه الشريف). كما على المنتظر أن يعي واجباته وأن يؤدي وظائفه على الوجه المطلوب حتى يحظى برضا إمام زمانه(عجل الله فرجه الشريف)، الوظائف التي ينبغي على المنتظر في زمن الغَيبة كثيرة منها:
* معرفة الإمام: ورد في الدعاء: (اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني..)[1]. عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال(عليه السلام): (إن الله عزّ وجلّ بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) إلى الناس أجمعين رسولاً وحجة لله على جميع خلقه في أرضه، فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) واتبعه وصَدَّقه فإن معرفة الإمام منا واجبة عليه، ومن لم يؤمن بالله وبرسوله (صلى الله عليه وآله) ولم يتبعه ولم يصدّقه ويعرف حقهما، فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ويعرف حقهما قال: قلت: فما تقول فيمن يؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ويُصدّق رسوله (صلى الله عليه وآله) في جميع ما أنزل الله، يجب على أولئك حق معرفتكم؟ قال(عليه السلام): نعم أليس هؤلاء يعرفون فلاناً وفلاناً قلت: بلى، قال(عليه السلام): أترى أن الله هو الذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاء ؟ والله ما أوقع ذلك في قلوبهم إلا الشيطان، لا والله ما ألهَم المؤمنين حقنا إلا الله عزّ وجلّ)[2].
لاشك أن معرفة الإمام(عليه السلام) من الواجبات الملقاة على عاتق جميع المسلمين، ويتضح لنا من خلال الدعاء - المذكور آنفاً- ارتباطها الوثيق بمعرفة الله سبحانه وتعالى، بل إنها الأساس لمعرفة الله تعالى، عن عبد الرحمان بن كثير قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول: (نحن ولاة أمر الله وخزنة علم الله وعيبة وحي الله وأهل دين الله، وعلينا نزل كتاب الله، وبنا عُبِد الله ولولانا ما عُرِف الله ونحن ورثة نبي الله وعترته).
قال العلامة المجلسي: (وبنا عُبِد الله، أي نحن علمنا الناس طريق عبادة الله، أو نحن عبدنا الله حق عبادته بحسب الامكان، أو بولايتنا عبد الله فإنها أعظم العبادات، أو بولايتنا صحت العبادات فإنها من أعظم شرائطها . قوله : ولولانا ما عرف الله ، أي لم يعرفه غيرنا، أو نحن عرفناه الناس، أو بجلالتنا وعلمنا وفضلنا عرفوا جلالة قدر الله وعظم شأنه)[3].
فالإمام (عليه السلام) هو حلقة الوصل بين الخالق والمخلوق ومهمته ربط قلوب الناس بالله وإعانتهم بإيصالهم إلى المقامات العالية، فطريق الهداية للحق والثبات على الصراط المستقيم لا يتم إلا بمعرفة المعصوم (عليه السلام) واقتفاء أثره، والسير على خطاه والثبات على ولايته. فعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: (إنما يعرف الله عزَّ وجلَّ ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منا أهل البيت، ومن لا يعرف الله عز وجل ولا يعرف الإمام منا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالاً)[4].
كما أنّ الجهل بمعرفة الإمام (عليه السلام) يؤدي بصاحبه إلى الضلال والابتعاد عن الصراط المستقيم، وبالتالي كلما توغّل فيه ابتعد أكثر عن الهدف، إلى أن ينتهي إلى نحو ما كان عليه أهل الجاهلية من الشرك، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام): (الأوصياء هم أبواب الله عزّ وجلّ التي يؤتى منها ولولاهم ما عُرف الله عزّ وجلّ وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه)[5].
أما السائر على طريقهم (عليهم السلام) العارف بحقهم وكمالاتهم ومراتب فضائلهم ومنازلهم التي اصطفاهم الله سبحانه ووضعهم فيها لا يزيده كثرة المسير إلا تَرقّياً في سُلّم الكمالات، وبصيرةً بكل ما يحيط بدرب غيرهم من الظلمات المتراكم بعضها فوق بعض قال تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)[6].
* انتظار الفرج: روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): (انتظروا الفرجَ ولا تيأسوا من روح الله، فإنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله عزَّ وجلَّ إنتظار الفرج..)[7]. وإنتظار الفرج يعني إنتظار دولة العدل الإلهي المباركة بقيادة وليّ الله الأعظم (عجل الله فرجه الشريف)
وكما ورد في الزيارة (..وعليك إلا متّكلاً ولظهورك إلا متوقعاً ومنتظراً ولجهادي بين يديك إلا مرتقباً..)[8]. وإنتظار الفرج يخالف تماماً مفهوم تمنّي الفرج فالزارع - مثلاً- يحرث الأرض ويرعاها ثم يبذر البذور ويسقيها ثم ينتظر المحصول ونوعية هذا المحصول يتناسب طردياً مع مقدار الجهد الذي بذله الزارع، وكذلك الإنسان الرسالي بتورعه عن محارم الله وانتهاجه لسيرة نبيّ الرحمة (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) يكون قد هيّأ التربة الصالحة لمنقذ البشرية الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) ليقيم دولته المباركة.
إذاً إنتظار الفرج يتطلب المساهمة في إيجاد شرائط الظهور، والعمل لأجل خروج الإمام بالتمهيد لذلك قدر الاستطاعة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الأعمال الصالحة، عن أبي بصير قال: قال الإمام الصادق جعفر بن محمدC: (...طُوبى لشيعةِ قائمنا المنتظِرين لظهوره في غيبته، والمُطيعين له في ظهوره، أولئك أولياءُ الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)[9].
* طاعة وكلاء الإمام: بعد وفاة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) قام بأعباء قيادة الأمة الأئمة الاثنا عشر(عليهم السلام) الذين نص عليهم التشريع الإلهي، فقد كان الناس يأخذون أحكامهم الشرعية من المعصوم مباشرة منذ عهد الرسول(صلى الله عليه وآله) وحتى عصر الإمام الحادي عشر (عجل الله فرجه الشريف)، أما إمامنا الثاني عشر(عجل الله فرجه الشريف) وبسبب الغَيبة لم يمارس مسؤولياته، وعلى ذلك فإن مسؤولية القيادة تؤول إلى مفكري الأمة وعلماء التشريع الإسلامي من المجتهدين ومراجع الدين؛ لتتولى مسؤولياتها في تبيان الصيغ الشرعية لكل متطلبات الأمة. وقد وردت أحاديث كثيرة تمتدح العلماء وتبين فضلهم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء وذاك أن الأنبياء لم يورٌثِّوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشئ منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه؟ فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)[10]. والحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)[11]. وقد وَضَّح الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) دور العلماء وضرورة الرجوع إليهم في رسالته للشيعة زمن الغَيبة الكبرى: (...أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)[12].
لذا علينا أن نرجع إلى العلماء الذين يملكون علم الإسلام وتقواه، والذين يخلصون لله ورسوله(صلى الله عليه وآله).
ولاشك أن الفقهاء يحتلون مكانة مرموقة في الإسلام وهذا واضح لمن يرجع إلى القرآن الكريم: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[13] . وتشير الآية إلى حلقة مهمة من حلقات النظام الديني، وهذه الحلقة هي دور الفقهاء كواسطة بين المعصوم وقاعدة المؤمنين، فهم يقومون بالدور النيابي عن المعصوم لنشر معارفه في مختلف القوميات والبلدان، كما أن التعرف على الدين والشريعة لايتم إلا بقيام فئة من الأمة تأخذ على عاتقها اكتساب العلوم الدينية والتفقه والفهم للكتاب العزيز والسُنَّة المطهرة حتى بلوغ مرحلة الفقاهة ليقوموا بعد ذلك بإنذار الناس بالحلال والحرام والفرائض والسنن وبالرجوع إلى روايات أهل البيت(عليهم السلام). والعلماء هم حراس الإسلام، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إن مثل العلماء كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة)[14]. ودورهم هذا يتأكد في زمن الغَيبة ففي الرواية عن الإمام الهادي(عليه السلام): (لو لا منْ يبقى بعد غَيبة قائمنا من العلماء الدّاعين إليه، والدالَّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج اللَّه تعالى، والمنقذين لضعفاء عباد اللَّه من شباك إبليس - لعنه اللَّه - ومردته، ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتدّ عن دين اللَّه تعالى ولكنّهم الَّذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكَّانها أولئك هم الأفضلون عند اللَّه عزّ وجلّ)[15].
* الالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء: ورد عن الإمام الحجة (عليه السلام) (...وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فأنّ ذلك فرجكم..)[16]. ومن البديهي أن نعلم انّه ليس المطلوب منّا الدعاء لفرج الإمام (عجل الله فرجه الشريف) فقط لفظاً وطلباً للثواب وإنما الدعاء والاستعداد بنفس الوقت لنصرة الإمام (عجل الله فرجه الشريف)، والقيمة الكبرى أن يتذكر الإنسان من تلقاء نفسه محنة الإمام (عجل الله فرجه الشريف)، ويكثر من الدعاء له بالفرج.
ولعل البعض يعترض بالقول: ما فائدة دعائنا للإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) وهو الإمام المعصوم والمحفوظ من قبل الله تعالى، وهو بالتالي مستجاب الدعوة عكسنا نحن العصاة المذنبون المفتقدون لأهلية استجابة الدعاء؟.
والجواب: نحن مأمورون بالدعاء للإمام (عجل الله فرجه الشريف) كما جاء ذلك في كثير من الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام)، ولعل ذلك من أجل بقاء الصلة والرابطة مع الإمام (عجل الله فرجه الشريف)، ولعل لذلك أيضاً آثاراً أخرى نحن لا نعلمها. فعن يونس بن عبد الرحمن قال: إن الرضا (عليه السلام) كان يأمر بالدعاء لصاحب الأمر بهذا: (اللهم ادفع عن وليك وخليفتك، وحجتك على خلقك، ولسانك المعبر عنك بإذنك، الناطق بحكمك، وعينك الناظرة على بريتك، وشاهدك على عبادك، الجحجاح[17] المجاهد، العائذ بك عندك، وأعذه من شر جميع ما خلقت وبرأت، وأنشأت وصورت، واحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، بحفظك الذي لا يضيع من حفظته به، واحفظ فيه رسولك وآباءه أئمتك، ودعائم دينك، واجعله في وديعتك التي لا تضيع، وفي جوارك الذي لا يخفر، وفي منعك وعزك الذي لا يقهر، وآمنه بأمانك الوثيق الذي لا يخذل من آمنته به، واجعله في كنفك الذي لا يرام من كان فيه، وأيده بنصرك العزيز وأيده بجندك الغالب، وقوّه بقوتك واردفه بملائكتك، ووال من والاه، وعاد من عاداه، وألبسه درعك الحصينة، وحُفّه بالملائكة حفا...)[18]. ومن ذلك أيضاً قول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[19]. فنحن مأمورون إذاً بالدعاء للنبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) والصلاة عليهم، وليس لأحد ما أن يعترض بالقول إذا كان الله تعالى مصلياً عليهم، فلا فائدة لصلاتنا عليهم أو لدعائنا هذا لهم (عليهم السلام). يقول السيد ابن طاووس الحسني (رضي الله عنه) بهذا الخصوص: (فإياك ثم إياك أن تقدم نفسك أو أحداً من الخلائق في الولاء والدعاء له (عجل الله فرجه الشريف) بأبلغ الإمكان وأحضر قلبك ولسانك في الدعاء لذلك المولى العظيم الشأن، وإياك أن تعتقد أنني قلت هذا لأنه محتاج إلى دعائك هيهات هيهات، إن اعتقدت هذا فإنك مريض في اعتقادك وولائك، بل إنما قلت هذا لما عرفت من حقه العظيم عليك وإحسانه الجسيم إليك، ولأنك إذا دعوت له قبل الدعاء لنفسك ولمن يعز عليك كان أقرب إلى أن يفتح الله جل جلاله أبواب الإجابة بين يديك لأن أبواب قبول الدعوات قد علّقتها أيها العبد بإغلاق الجنايات، فإذا دعوت لهذا المولى الخاص عند مالك الأحياء والأموات يوشك أن يفتح أبواب الإجابة لأجله، فتدخل أنت في الدعاء لنفسك ولمن تدعو له في زمرة فضله، وتتسع رحمة الله جل جلاله لك وكرم عنايته بك؛ لتعلقك في الدعاء بحبله)[20].
[1] الكافي للكليني:ج1، ص337.
[2] الكافي للكليني:ج1،ص181.
[3] بحار الأنوار للمجلسي:26، ص247.
[4] الكافي للكليني:ج1،ص181.
[5] الكافي للكليني: ج 1، ص 193.
[6] سورة النور: آية 40.
[7] الخصال للشيخ الصدوق:ص616.
[8] المزار للشهيد الأول: ص206.
[9] المزار للشهيد الأول: ص206.
[10] الكافي للكليني:ج1،ص32.
[11] أوائل المقالات: للشيخ المفيد:ص178.
[12] وسائل الشيعة للعاملي:ج27،ص140.
[13] سورة التوبة: آية122.
[14] كنز العمال للمتقي الهندي:ج10،ص151.
[15] بحار الأنوار للمجلسي:ج2،ص6.
[16] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص293.
[17] الجحجاح: السيد المسارع في المكارم .
[18] بحار الأنوار للمجلسي: ج92، ص331.
[19] سورة الأحزاب: آية56.
[20] فلاح السائل لابن طاووس: ص45.