تفاضل الرسل واختلاف الأديان

قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)[1].

دور الأنبياء في حياة البشر

هذه الآية تشير إلى درجات الأنبياء ومراتبهم وجانبا من دورهم في حياة المجتمعات البشرية، تقول الآية: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ).

(تلك) اسم إشارة للبعيد، والإشارة إلى البعيد تستعمل أحيانا لإضفاء الاحترام والتبجيل على مقام الشخص أو الشيء المشار إليه، هنا أيضا أشير إلى الرسل باسم الإشارة (تلك) لتبيان مقام الأنبياء الرفيع.

واختلف المفسرون في المقصود بالرسل هنا، ولكن يبدو أن المقصود هم الأنبياء والمرسلون جميعا، لأن كلمة (الرسل) جمعٌ حُلِّيَ بالألف واللام الدالتين على الاستغراق، فتشمل الرسل كافة.

(فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يتضح جليّا من هذه الآية أن الأنبياء - وإن كانوا من حيث النبوة والرسالة متماثلين - هم من حيث المركز والمقام ليسوا متساوين لاختلاف مهماتهم، وكذلك مقدار تضحياتهم كانت مختلفة أيضا.

قوله تعالى: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) هذه إشارة إلى بعض فضائل الأنبياء، وواضح أن المقصود بالآية موسى (عليه السلام) المعروف باسم (كليم الله).

ثم تضيف الآية (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) ومع الالتفات إلى أن الآية أشارت إلى التفاضل بين الأنبياء بالدرجات والمراتب، فيمكن أن يكون المراد في هذا التكرار إشارة إلى أنبياء معينين وعلى رأسهم نبي الإسلام الكريم لأن دينه آخر الأديان وأكملها، فمن تكون رسالته إبلاغ أكمل الأديان لابد أن يكون هو نفسه أرفع المرسلين.

ومع ذلك، فإن العبارات المتقدمة في هذه الآية تدل على أن المقصود من (رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) هم بعض الأنبياء السابقين، مثل إبراهيم إذ يقول سبحانه في الآية التالية: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي لو شاء الله ما أخذت أمم هؤلاء الأنبياء تتقاتل فيما بينها بعد رحيل أنبيائها.

(وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي أننا وهبنا عيسى (عليه السلام) براهين واضحة مثل شفاء المرضى المزمنين وإحياء الموتى والمعارف الدينية السامية.

وعندما تؤكد هذه الآية على أن عيسى (عليه السلام) كان مؤيدا بروح القدس فلأنه كان يتمتع بسهم أوفر من سائر الأنبياء من هذه الروح المقدسة.

وتشير الآية كذلك إلى وضع الأمم والأقوام السالفة بعد الأنبياء والاختلافات التي جرت بينهم فتقول: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) فمقام الأنبياء وعظمتهم لن يمنعا من حصول الاختلافات والاقتتال والحرب بين أتباعهم لأنها سنّة إلهية أن جعل الله الإنسان حرّا، ولكنه أساء الاستفادة من هذه الحرية (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ).

ومن الواضح أن هذا الاختلاف بين الناس ناشئ من اتِّباع الأهواء والشهوات، وإلا فليس هناك أيُّ صراع واختلاف بين الأنبياء الإلهيين حيث كانوا يتّبعون هدفا واحدا.

ثم تؤكّد الآية أن الله تعالى قادر على منع الاختلافات بين الناس بالإرادة التكوينية وبالجبر، ولكنه يفعل ما يريد وفق الحكمة المنسجمة مع تكامل الإنسان، ولذلك تركه مختارا (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ).

ولا شك في أن بعض الناس أساء استخدام هذه الحرية، ولكن وجود الحرية في المجموع يعتبر ضروريا لتكامل الإنسان، لأن التكامل الإجباري لا يعد تكاملا.

وضمنا يستفاد من هذه الآية بطلان الاعتقاد بالجبر، حيث تثبت أن الله تعالى ترك الإنسان حرا فبعض آمن وبعض كفر.

هل الأديان تسبب الاختلافات؟

يتهم بعض الكُتّاب الغربيين الأديان على أنها هي سبب التفرقة والنزاع بين أفراد البشر، وهي السبب في إراقة الكثير من الدماء، فالتاريخ شهد الكثير من الحروب الدينية، وهكذا سعوا إلى إدانة الأديان واعتبارها من الأسباب المثيرة للحروب والمخاصمات.

وإزاء هذا القول لابد من الانتباه إلى ما يلي:

أولا: أن الاختلافات - كما جاء في الآية المذكورة - لا تنشأ في الحقيقة بين الأتباع الصادقين لدين من الأديان، بل هي بين أتباع الدين ومخالفيه، وإذا ما شاهدنا صراعا بين أتباع مختلف الأديان فإن ذلك لم يكن بسبب التعاليم الدينية، بل بسبب تحريف التعاليم والأديان، والتعصّب المقيت، ومزج الأديان السماوية بالخرافات.

ثانيا: أن الدين - أو تأثيره - قد انحسر اليوم عن قسم من المجتمعات البشرية، ومع ذلك نرى أن الحروب قد ازدادت قسوةً واتساعاً، وانتشرت في مختلف أرجاء العالم، فهل أن الدين هو السبب، أم أن روح الطغيان في مجموعة من البشر هي السبب الحقيقي لهذه الحروب، ولكنها تظهر اليوم بلباس الدين، وفي يوم آخر بلباس المذاهب الاقتصادية والسياسية، وفي أيام أخرى بقوالب ومسميات أخرى؟! وعليه فالدين لا ذنب له في هذا، إنما الطغاة هم الذين يشعلون نيران الحروب بحجج متنوعة.

ثالثا: أن الأديان السماوية - وعلى الأخص الإسلام - التي تكافح العنصرية والقومية، كانت سببا في إلغاء الحدود العنصرية والجغرافية والقبلية، فقضت بذلك على الحروب التي كانت تثار باسم هذه العوامل، وعليه فإن الكثير من الحروب في التاريخ قد خمدت نيرانها بفضل الدين، كما أن روح السلام والصداقة والأخلاق والعواطف الإنسانية التي ترفع لواءها جميع الأديان السماوية، كان لها أثر عميق في تخفيض الخصومات والمشاكسات بين مختلف الأقوام.

رابعا: أن من رسالات الأديان السماوية تحرير الطبقات المحرومة المعذَّبة، وكانت هذه الرسالة هي سبب الحروب التي شنَّها الأنبياء وأتباعهم على الظالمين والمستغلين، من أمثال فرعون والنمرود.

إن هذه الحروب التي تعتبر جهادا في سبيل تحرير الإنسان، ليست عيوبا تلصق بالأديان، بل هي من مظاهر فخرها واعتزازها وقوتها، إن حروب رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) مع المشركين من العرب والمرابين في مكة من جهة، ومع قيصر وكسرى من جهة أخرى، كانت كلها من هذا القبيل[2].

مجلة بيوت المتقين العدد (73)

 


[1] البقرة: 253.

[2] تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج2، ص233- 238 بتصرف.