قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).
يجب على الأبناء أن يقدّروا فضلَ آبائهم وعظيمَ إحسانهم، فيجازونهم بما يستحقونه من حسن الوفاء، وجميل التوقير والإجلال، ولطف البر والإحسان، وسمو الرعاية والتكريم، أدبياً ومادياً، وقد حثّ الله تعالى على بر الوالدين وقرنه بعبادته وتوحيده في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)[1]، وقوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى...)[2]، وانظر كيف يُعظِّم القرآن الكريم شأن الأبوين، ويحضّ على إجلالهما ومصاحبتهما بالبر والمعروف، حيث قال: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ* وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً)[3]، وقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)[4].
وعن أبي ولّاد الحنّاط قال: (سألت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)[5]، ما هذا الإحسان فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين، أليس يقول الله عز وجل: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[6]، قال: ثم قال أبو عبد الله(عليه السلام): وأما قول الله عز وجل: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا)[7]، إن أضجراك فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما إن ضرباك: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً)، قال: إن ضرباك فقل لهما غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ)[8]، قال: وهو أن لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلاّ برحمة ورقّة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما ولا تَقدَّم قُدَّامها)[9].
فقد أعربت هاتان الآيتان عن فضل الوالدين ومقامهما الرفيع، وضرورة مكافأتهما بالشكر الجزيل، والبر والإحسان اللائقين بهما، فأمرت الآية الأولى بشكرهما بعد شكر الله تعالى، وقرنت الثانية الإحسان إليهما بعبادته عزّ وجلّ، وهذا غاية التعزيز والتكريم، فبر الوالدين والإحسان إليهما هو من أفضل القربات، وأشرف السعادات، ولذلك ورد ما ورد من الحث عليه، والترغيب فيه، ونحن نذكر هنا جملة وافرة من الروايات تأكيداً على هذا المعنى:
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (برُّ الوالدين أفضلُ من الصلاة والصوم والحجِّ والعمرة والجهاد في سبيل الله)[10]، وعنه(صلى الله عليه وآله): (من أصبح مُرضِياً لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة)[11]، وعنه (صلى الله عليه وآله): (قيل: يا رسول الله ما حق الوالد قال: أن تطيعه ما عاش، قيل: وما حق الوالدة فقال هيهات هيهات لو أنه عدد رمل عالج وقطر المطر أيام الدنيا قام بين يديها ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها)[12]، وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (ثلاث لم يجعل الله تعالى فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبرِّ والفاجر، وبرّ الوالدين بريّن كانا أو فاجرين)[13]، وعنه(عليه السلام): (صدقة السر تطفئ غضب الرب وبر الوالدين وصلة الرحم يزيدان في الأجل)[14]، وعنه(عليه السلام): (وما كانوا يعرفون -أي: شيعتنا- يا جابر إلا بالتواضع والبر بالوالدين)[15]، وعن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتته أخت له من الرضاعة، فلما نظر إليها سرّ بها وبسط ملحفته لها، فأجلسها عليها، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها، ثم قامت فذهبت، وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له: يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به، وهو رجل! فقال: لأنها كانت أبرّ بوالديها منه)[16]، وعنه (عليه السلام): إن رجلاً أتى النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: (يا رسول الله أوصني، فقال: لا تشرك بالله شيئاً، وإن حُرِّقت بالنار وعُذِّبت إلا وقلبك مطمئن بالإيمان، ووالديك، فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميتين، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، فإن ذلك من الإيمان)[17]، وعنه(عليه السلام)، عن آبائه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (نَظرُ الولد إلى والديه حباً لهما عبادة)[18]، وعنه (عليه السلام) قال: سأل رجل رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما حق الوالد على ولده؟ قال(صلى الله عليه وآله): (لا يسمّيه باسمه ولا يمشي بين يديه ولا يجلس قبله ولا يستسبّ له)[19]، أي لا يفعل ما يصير سبباً لسب الناس له، كأن يسبهم أو آباءهم وقد يسب الناس والد من يفعل فعلاً شنيعاً قبيحاً، وجاء في فقه الرضا (عليه السلام): (عليك بطاعة الأب وبره والتواضع والخضوع والإعظام والإكرام له وخفض الصوت بحضرته، فإن الأب أصل الابن والابن فرعه، لولاه لم يكن بقدرة الله، ابذلوا لهم الأموال والجاه والنفس)، وقد روي: (أنت ومالك لأبيك)، فجعلت له النفس والمال، تابعوهم في الدنيا أحسن المتابعة بالبر وبعد الموت بالدعاء لهم والرحمة عليهم، فإنه روي أن من برّ أباه في حياته ولم يدعُ له بعد وفاته سمّاه الله عاقاً.
برّ الوالدين يزداد عند عجزهما:
برّ الوالدين وإن كان له فضله ووقعه الجميل في نفس الوالدين، بَيد أنه يزداد فضلاً ووقعاً جميلاً عند عجزهما وشدة احتياجهما إلى الرعاية والبر، كحالات المرض والشيخوخة، وإلى هذا أشار القرآن الكريم: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)[20]، وقد ورد أن رجلاً جاء إلى النبي(صلى الله عليه وآله)، فقال: (يا رسول الله، إن أبويّ بلغا من الكبر وإني ألي منهما ما ولياني في الصغر، فهل قضيتهما حقهما؟ قال: لا، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبّان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما)[21]، وعن إبراهيم بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (إن أبي قد كبر جداً وضعف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة، فقال: إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل، ولقّمه بيدك، فإنه جُنّة لك غداً)[22].
بر الوالدين بعد موتهما:
ليس البر مقصوراً على حياة الوالدين فحسب، بل هو ضروري في حياتهما وبعد وفاتهما، فانقطاعهما عن الدنيا لا يعني عدم حاجتهما إلى شي، بل هما بعد الموت أشد احتياجاً إلى البر والإحسان المتمثل بالدعاء لهما وإهداء ثواب الطاعات والقربات، فمهما بلغ الإنسان في دنياه من كثرة عمل الخير يبقى محتاجاً له بعد موته، لعدم علمنا ما حلَّ به، وهل قبلت أعماله أو لم تقبل، مما يقتضي - شفقةً عليهما - أن يستمر الشخص محسنا لأبويه بعمل الخير لهما، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: (ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته وهي تجري بعد موته، وسُنّة هدى سنّها فهي يُعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له)[23].
من أجل ذلك فقد تظافرت وصايا أهل البيت (عليهم السلام) على برّ الوالدين بعد وفاتهما، وأكدت عليه وذلك بقضاء ديونهما المالية أو العبادية، وإسداء الخيرات والمبرّات إليهما، والاستغفار لهما، والترحّم عليهما واعتبرت إهمال ذلك ضرباً من العقوق، قال الإمام الباقر (عليه السلام): (إن العبد ليكون باراً بوالديه في حياتهما، ثم يموتان فلا يقضي عنهما دَينهما ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عاقاً، وإنه ليكون عاقاً لهما في حياتهما غير بار بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه الله تعالى باراً)[24]، وعن الإمام الصادق عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (سيد الأبرار يوم القيامة، رجل برّ والديه بعد موتهما)[25]، وعنه (صلى الله عليه وآله): (ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين وميتين يصلي عنهما ويتصدق عنهما ويحج عنهما ويصوم عنهما فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك فيزيده الله عز وجل ببره وصلته خيراً كثيراً)[26]، من أجل ذلك كان فضل الوالدين على الولد عظيماً وحقهما جسيماً، سما على كل فضلٍ وحقٍ بعد فضل الله عز وجل وحقه.
مجلة بيوت المتقين العدد (29)
[1] سورة البقرة: آية 83.
[2] سورة النساء: آية 36.
[3] سورة لقمان: آية 14-15.
[4] سورة الإسراء: آية 23-24.
[5] سورة البقرة: آية 83.
[6] سورة آل عمران: آية 92.
[7] سورة الأنبياء: آية 23.
[8] سورة الإسراء: آية 14.
[9] من لا يحضره الفقيه: ج4، ص291.
[10] المحجة البيضاء: ج3، ص434.
[11] جامع السعادات: ج2، ص203.
[12] العوالي: ج1، ص269.
[13] الكافي: ج2، ص129.
[14] الكافي: ج15، ص176.
[15] جامع أحاديث الشيعة: ج21، ص441.
[16] بحار الأنوار: ج47، ص268.
[17] الكافي: ج2، ص158.
[18] تحف العقول: ص46.
[19] الكافي: ج2، ص158.
[20] سورة الإسراء: آية23 ـ 24.
[21] تفسير كنز الدقائق: ج7، ص381.
[22] الكافي: ج2، ص162.
[23] الكافي: ج7، ص56.
[24] مشكاة الأنوار: ص158.
[25] بحار الأنوار: ج74، ص86.
[26] الكافي: ج2، ص127.