الانتظار

لم يكن مفهوم الانتظار مفهوما طارئ على المنظومة الإسلامية، ولم يكن هامشيا، او جديدا على ذهنية الفرد المسلم، بل هو مفهوم أصّل له القران الكريم، والنص الروائي بشكل أصبح معه شئ لا يقبل الشك أو التاويل أو الابهام، فقد وردت أحاديث كثيرة تؤكِّد على أنَّ انتظار الفَرَج: (أفضل الأعمال)[1]
وأنه من أحب الاعمال، كما ورد عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله ، فإن أحبَّ الأعمال إلى الله عزَّ وجل انتظار الفرج ... و المنتظرُ لأمرنا كالمتشحِّطِ بدمه في سبيل الله)[2].

‏حقيقة الانتظار:

الانتظار عبارة عن: (كيفية نفسانية ينبعث منها التهيؤ لما تنتظره، وضده اليأس)، فكلما كان الانتظار أشد كان التهيؤ آكد، ألا ترى أنّه إذا كان لك مسافر تتوقع قدومه ازداد تهيؤك لقدومه كلما قرب حينه، بل ربما تَبدّل رقادك بالسهاد لشدة الانتظار.

  وكما تتفاوت مراتب الانتظار من هذه الجهة، كذلك تتفاوت مراتبه من حيث حبك لمن تنتظره، فكلما اشتد الحب ازداد التهيؤ للحبيب وأوجع فراقه، بحيث يغفل المنتظِر عن جميع ما يتعلق بحفظ نفسه، ولا يشعر بما يصيبه من الالآم الموجعة والشدائد المفظعة.

فالمؤمن المنتظِر مولاه كلما اشتد انتظاره ازداد جهده في التهيؤ لذلك بالورع والاجتهاد، وتهذيب نفسه، وتجنّب الأخلاق الرذيلة، والتحلّي بالأخلاق الحميدة حتى يفوز بزيارة مولاه ومشاهدة جماله في زمان غيبته كما اتفق ذلك لجمع كثير من الصالحين، ولذلك أمر الأئمة الطاهرون(عليهم السلام) في جملة من الروايات بتهذيب الصفات وملازمة الطاعات، بل رواية أبي بصير مشعرة، أو دالة على توقف الفوز بذلك الأجر حيث قال الإمام الصادق (عليه السلام): (مَن سرّه أن يكون من أصحاب القائم، فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل مَن أدركه...) ولا ريب أنه كلما اشتد الانتظار ازداد صاحبه مقاماً وثواباً عند الله عز وجل....[3].

والانتظار يعني: (ترقّب ظهور وقيام الدولة القاهرة، والسلطنة الظاهرة لمهدي آل محمد (عليهم السلام). وإمتلائها قسطاً وعدلاً، وانتصار الدين القويم على جميع الأديان كما أخبر به الله تعالى نبيه الأكرم(صلى الله عليه وآله) ووعده بذلك، بل بشّر به جميع الأنبياء والأمم، أنه يأتي مثل هذا اليوم الذي لا يعبد فيه غير الله تعالى، ولا يبقى من الدين شيء مخفي وراء ستر وحجاب مخافة أحد...)[4].

اذن الانتظار يتضمن حالة قلبية توجدها الأصول العقائدية الثابتة بشأن حتمية ظهور المهدي الموعود (عجل الله فرجه)، وتحقق أهداف الأنبياء(عليهم السلام) ورسالاتهم وآمال البشرية وطموحاتها على يديه(عليه السلام)،
وهذه الحالة القلبية تؤدّي الى انبعاث حركة عملية تتمحور حول التهيّؤ والاستعداد للظهور المنتظر، ولذلك أكّدت الأحاديث الشريفة على لزوم ترسيخ المعرفة الصحيحة المستندة للأدلة العقائدية بالإمام المهدي(عجل الله فرجه)، وغيبته، وحتمية ظهوره.

وعليه يتضح أن الانتظار لا يكون صادقاً إلاّ اذا توفرت فيه: عناصر ثلاثة مقترنة: عقائدية ونفسية وسلوكية، ولولاها لا يبقى للانتظار أي معنى إيماني صحيح سوى التعسّف المبني على المنطق القائل: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[5] المنتج لتمني الخير للبشرية من دون أي عمل إيجابي في سبيل ذلك)[6].

ولذلك نلاحظ في الأحاديث الشريفة المتحدثة عن قضية الانتظار تأكيدها على معرفة الإمام المهدي(عجل الله فرجه)، ودوره وترسيخ الارتباط المستمر به (عليه السلام) في غيبته كمظهر للانتظار، والالتزام العملي بموالاته، والتمسك بالشريعة الكاملة، وإعداد المؤمن نفسه كنصير للإمام المهدي (عجل الله فرجه) يتحلّى بجميع الصفات الجهادية والعقائدية والأخلاقية اللازمة للمساهمة في إنجاز مهمته الإصلاحية الكبرى، وإلاّ لن يكون انتظاراً حقيقياً.

(إن انتظار الفرج نوعان: انتظار بنّاء باعث للتحرك والالتزام الرسالي، فهو عبادة وأفضل العبادات، وانتظار مخرّب يشلّ الإنسان عن العمل البنّاء فهو يعتبر نمطاً من أنماط (الإباحية)... إن نوعي الانتظار هذين هما نتيجة لنوعين من الفهم لماهية الظهور التأريخي العظيم للمهدي الموعود (عليه السلام)... والبعض يفسّر القضية المهدوية وثورتها الموعودة بأنها ذات صبغة انفجارية لا غير، وأنها نتيجة لانتشار الظلم والتمييز والقمع وغصب الحقوق والفساد... فعندها يقع الانفجار وتظهر يد الغيب لإنقاذ الحق... وعليه فإن أفضل عون يمكن أن يقدّمه الإنسان لتعجيل الظهور المهدوي، وأفضل أشكال الانتظار هو (السماح بـ) ترويج الفساد...وهذا تفسير خاطىء بلا اشكال لان المستفاد من الآيات أن ظهور المهدي الموعود(عجل الله فرجه) حلقة من حلقات مجاهدة أنصار الحق لأشياع الباطل التي تكون عاقبتها الانتصار الكامل لأنصار الحق، ومشاركة الإنسان في الحصول على هذه السعادة مرهون بأن يدخل عملياً في صفوف أنصار الحق...

ويُستفاد من الروايات الإسلامية أن ظهور المهدي (عجل الله فرجه) يقترن ببلوغ جبهتي السعداء والأشقياء ذروة عملهم كل حسب أهدافه لا أن ينعدم السعداء ويبلغ الأشقياء ذروة إجرامهم وظلمهم، وتتحدث الأحاديث الشريفة عن صفوة من أنصار الحق تلتحق بالإمام(عليه السلام) فور ظهوره... فحتى لو فرضنا أنهم قلة من الناحية الكمية إلاّ أنهم من الناحية الكيفية خيرة أهل الإيمان وبمستوى انصار سيد الشهداء(عليه السلام)، كما تتحدث عن التمهيد لثورة الإمام المهدي(عليه السلام)  بسلسلة من الانتفاضات التي يقوم بها أنصار الحق...)[7].

إذن يتضح مما تقدم أن للانتظار الشرعي المطلوب جملة من الشروط لا يتحقق بدونها العمل به كأهمِّ تكاليف المؤمنين في عصر الغيبة، وقد تحدثت عنها الأحاديث الشريفة، وجمعها الإمام السجاد(عليه السلام) حيث قال ضمن حديث له عن القضية المهدوية: (إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كل زمان، لأن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة العيان، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً والدعاة الى دين الله عز وجل سراً وجهراً)[8].

 

المصدر: مجلة بيوت المتقين / العدد (64) ـ الصفحة: 20 - 21.

 


[1] بحار الأنوار: ج10، ص99 و ج52، ص122.

[2] بحار الأنوار: ج52، ص123.

[3] مكيال المكارم: ج2، ص152 ـ 153.

[4] النجم الثاقب: ج2، ص443.

[5] المائدة: 24.

[6] تاريخ الغيبة الكبرى: 342.

[7] النهضة والثورة المهدوية، للشهيد المطهري: ص61 ـ 81.

[8] كمال الدين: ص319.