إن قضيّة الإمام المهدي(عليه السلام) تشكّل حيّزاً ثقافيّاً بارزاً في الفكر والتراث الإسلاميّ، لكن نجد إن هذه الثقافة تنقسم إلى اتجاهين:
الاتجاه الأوّل: وهو الذي يأخذ بهذه القضيّة نحو مسار الجدل في تفاصيلها؛ فهناك مجمل يتفق عليه المسلمون وهو: إن أحداً من آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته(عليهم السلام)، وبالتحديد من ولد فاطمة (عليها السلام)، يظهر في آخر الزمان، لإقامة دولة الحق والعدل على مستوى العالم، فقد أخرج أبو داوود في سننه عن أم سلمة أنها قالت: سمعت رسول الله يقول: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)[1].
وقد صحّح هذا الحديث رجال الحديث من أهل السنّة وعند المدرسة السلفيّة بالخصوص، كالألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة[2].
وهذا المجمل متفق عليه، وهناك تفاصيل كأيّ قضيّة عقديّة أخرى، بدءاً من التوحيد، ومروراً بالنبوّة، وانتهاءً بالمعاد، أو كأيّ قضيّة فقهيّة كالصلاة والصوم والحجّ؛ فإن المسائل والتفاصيل الداخليّة هي مساحة للاختلاف بين العلماء والفقهاء، بسبب اختلاف الروايات والنصوص، أو بسبب اختلاف الفهم والاستنباط من تلك الروايات والنصوص.
هناك ثقافة أخذت بموضوعة الإمام المهدي (عليه السلام) نحو هذه التفاصيل، بحيث أصبحت هذه القضيّة واحدة من ساحات الجدل والخلاف المذهبي.
والاتجاه الثاني: أخذ قضيّة الإمام المهديّ (عليه السلام) باتجاه الأمور العاطفيّة، والاستغراق في هذا الجانب، وسوء تطبيق الروايات على الواقع الذي يعيشه.
وهذا التطبيق هو نوع من التأويل لهذه الروايات، يختلف فيه الناس باختلاف دوافعهم وأفكارهم ومصالحهم وبيئاتهم، لذلك أصبحنا نشهد ادعاءات كثيرة للمهدوية في التأريخ، أو أدعياء للسفارة والنيابة الخاصّة عنه (عليه السلام).
وهناك من يقبل بمثل هذه الدعاوى بسبب تأويل النصوص على الأشخاص وعلى الأحداث المعاصرة، وبالاستعانة بالأطياف والأحلام.
وكيف يقبل العقلاء لأنفسهم أن ينقادوا على أساس الأحلام والأطياف والخرافات، مع ان القول بمصدريّة الأطياف والأحلام لأيّ حكم أو موقف شرعيّ، لا تساعد عليه الأدلّة الواضحة والمعتبرة في المجال التشريعيّ.
وكذلك الحديث عن علامات عصر الظهور، وهو الشغل الشاغل لكثير من الناس؛ حيث تراهم يبحثون عن بعض النصوص الروائيّة لتفسير أيّ حدث من الأحداث الواقعة، وبالتالي يدّعون أن هذا العصر هو عصر الظهور، أو إن عصر الظهور قد اقترب، مع إن الأمر بيد الله سبحانه وتعالى، ولا يدري الإنسان إن ظهور الإمام الموعود هل هو في هذا العصر أو في عصر آخر، في هذا القرن أو بعد قرون، لكن البعض من الناس يأخذ بالثقافة المهدويّة بهذا الاتجاه الخاطئ، وهذا قسم من الثقافة المهدويّة التي توظّف توظيفاً سلبيّاً.
وجوه الاستفادة من الثقافة المهدويّة:
يجب الاستفادة من الثقافة المهدويّة بالاتجاه الإيجابيّ والذي يفيد: إن جوهر القضية المهدويّة هو التطلّع لدور الأمّة الرياديّ، وإقامة الحقّ والعدل في ربوع الأمّة والعالم، فينبغي علينا الاستفادة من الثقافة الموجودة في تراثنا بهذا الاتجاه، وذلك من خلال عدة أمور، منها:
أولاً: أن نعزّز ـ بفكرة المهدويّة ـ الأمل في نفوس الناس لأنهم يواجهون أمواجاً من الظلم، وعصوراً من الاستبداد والقمع، وجولات لانتصار الباطل والفساد.
إن القضيّة المهدويّة تريد أن تجعل الأمل ثابتاً في نفس الإنسان المؤمن، وأن ينظر إلى الأحداث ضمن معادلة التدافع البشريّ، ﴿وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[3]؛ حيث يحصل انتصار هنا وانتكاسة هناك، تقدّم هنا وتأخر هناك، لكن الإنسان المؤمن لابد أن يحافظ على الأمل مشبعاً في نفسه برحمة الله، متطلّعاً إلى الفرج.
فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله؛ فإن أحب الأعمال إلى الله انتظار الفرج)[4].
فينبغي أن تكون القضيّة المهدويّة وسيلة لتعزيز هذه الحالة النفسيّة المتفائلة، في مقابل حالة الانكسار والانهزام النفسيّ، واليأس والقنوط أمام المشاكل والظروف الحالكة.
ثانياً: ينبغي الاستفادة من الثقافة المهدويّة في بناء الكفاءة استعداداً للمشاركة في بناء الواقع والمستقبل الموعود؛ فإن المؤمن الذي ينتظر أن تملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويتطلّع لإزالة الظلم والجور عنها ينبغي أن يهيّأ نفسه بالكفاءة والقدرات ليكون جزءاً من عمليّة تحقيق هذا الوعد الإلهيّ كما نقرأ في فقرات الدعاء:
(اللهمَّ إِنَّا نَرْغَبُ إِلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ، تُعِزُّ بِهَا الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا النِّفَاقَ وَأَهْلَهُ، وتَجْعَلُنَا فِيهَا مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى طَاعَتِكَ، وَالْقَادَةِ فِي سَبِيلِكَ، وَتَرْزُقُنَا بِهَا كَرَامَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة)[5].
وكيف يكون الإنسان من الدعاة والقادة إلا إذا توفّر على الكفاءة والقدرات؛ من هنا فإن الثقافة المهدويّة يجب أن تدفع الإنسان المؤمن لتنمية قدراته وكفاءاته حتى يكون أهلاً لحمل هذه التطلّعات والآمال والهموم.
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) يضع فيها برنامجاً لمن يريد أن يكون من أصحاب الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) بعيداً عن البرامج التي لا تركّز على المهام البنائيّة والتربويّة:
(مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْقَائِمِ فَلْيَنْتَظِرْ وَلْيَعْمَلْ بِالْوَرَعِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ مُنْتَظِرٌ)[6].
فعلى الإنسان المنتظِر أن لا ينزلق إلى مزالق الحرام والانحراف والفساد، وعليه التحلّي بمحاسن الأخلاق في برامجه الشخصيّة وفي تعامله مع الأخرين.
وهكذا يقدّم الإمام نتيجة من هذه المواصفات وطريقة الانتظار قائلاً:
(فَإِنْ مَاتَ وَقَامَ الْقَائِمُ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ أَدْرَكَهُ، فَجِدُّوا وَانْتَظِرُوا..). [7]
والجِدُ الذي تطلبه الرواية هو: الجد في العمل والحركة، وفي كسب المعرفة وبناء الكفاءة؛ لذا ينبغي على الإنسان أن يتوجّه لبناء كفاءته وطاقته، وأن لا يكتفي بالتوجهات العاطفيّة فقط، فقراءة الدعاء والتوسّل والاحتفاء والانتظار أمرٌ حسن لا نقاش في حسنه، ولكن ينبغي أن يرافق ذلك بناءً للقدرات والكفاءات.
المصدر: مجلة بيوت المتقين / العدد (54) ـ الصفحة: 20 - 21.