قال تعالى: (... وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ...)[1].
الصفة السابعة للمؤمنين التي ذكرت في سورة الفرقان هي طهارتهم من التلوث بدم الأبرياء (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ)، والنفس التي تُقتل بالحق والعدل هي التي قَتلت نفسا بغير الحق، أو زنت عن إحصان، أو ارتدت عن دين الحق، أو سعت في الأرض فسادا والتفصيل في كتب الفقه.
ويستفاد من الآية أعلاه أن جميع الأنفس الإنسانية محترمة في الأصل، ومحرّم إراقة دمائها إلا إذا تحققت أسباب ترفع هذا الاحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم[2].
لقد عنيت الشريعة الإسلامية بالمحافظة على دماء الناس عناية تامة، وقد ورد في الآيات الكريمة والروايات الشريفة التأكيد على تحريم القتل وسفك الدماء بغير حق، قال الله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[3].
وقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً)[4]، وقال سبحانه: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)[5].
روي عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنه مرّ بقتيل....فقال: (والله الذي نفسي بيده لو اشترك فيه أهل السماء والأرض لأكبهم الله في النار)[6].
وورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقف بمنى حتى قضى مناسكها في حجة الوداع... إلى أن قال: فقال: (أيُّ يوم أعظم حرمة؟ فقالوا: هذا اليوم فقال: فأيُّ شهر أعظم حرمة؟ فقالوا هذا الشهر، قال: فأيُّ بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد، قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه، فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، ألا مَن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه، ولا تظلموا أنفسكم ولا ترجعوا بعدي كفارا)[7].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يدخل الجنة سافك للدم ولا شارب الخمر ولا مشاء بنميم)[8].
وعن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إن في جهنم واديا يقال له: سعير، إذا فُتح ذلك الوادي ضجّت النيران منه، أعده الله تعالى للقاتلين)[9].
لذلك هدّدت الشريعة المقدسة الجُناة الذين يعتدون على دماء الناس تهديدا شديدا، فلقد جعل الله تعالى عقوبة قتل النفس من أفظع العقوبات، وجعل القضاء بها من أعظم المظالم فيما يرجع إلى العباد، وجعل الحساب عليها أول حساب يوم القيامة، فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدماء...)[10].
وقتل النفس من الموبقات المهلكات، ومن أكبر الكبائر، فقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: (من الكبائر قتل المؤمن عمدا والفرار من الزحف وأكل الربا بعد البينة وأكل مال اليتيم ظلما والتعرّب بعد الهجرة ورمي المحصنات الغافلات المؤمنات)[11].
واعتبر الشارع أن المسلم لا يزال في سعة منشرح الصدر، فإذا أراق دم امرئ مسلم صار منحصرا ضيّقا، لما أُوعد الله عليه ما لم يوعد على غيره من دينه، فيضيّق عليه دينه بسبب الوعيد لقاتل النفس عمدا بغير حق، فعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما قال: ولا يوفق قاتل المؤمن متعمدا للتوبة)[12].
وقد ثبت في الشرع النهي عن قتل البهيمة بغير حق، والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، وكيف بقتل المسلم، وكيف بقتل المرء الصالح، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (لَزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)[13].
وقد شوهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبكِ وما أطيب ريحكِ، ما أعظمكِ وما أعظم حرمتَكِ، والذي نفس محمد بيده لحَرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتَكِ: ماله، ودمه)[14]، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لو أن أهل السماوات السبع وأهل الأرَضيين السبع اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله جميعا في النار)[15]، بل جعل الشارع الذنب على من أعان على قتل مؤمن بمال، أو سلاح، أو ساعده ولو بكلمة، أو بنصف كلمة، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة بين عينيه مكتوب: آيس من رحمة الله تعالى)[16].
وقد جعل الله تعالى وزر مَن قتل نفسا بغير حق حرّمها الله تعالى، مثل مَن قتل الناس جميعا، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن حرّم قتلها واعتقد ذلك، فكأنما حرّم دماء الناس جميعا، وكأنه أحيا الناس جميعا، فقد سلم الناس منه بهذا الاعتبار، قال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)[17].
وورد عن حمران قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): في معنى قول الله عز وجل: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّه مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)، قال: قلت: كيف كأنما قتل الناس جميعا، فربما قتل واحدا؟ فقال: يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدة عذاب أهلها لو قتل الناس جميعا لكان إنما يدخل ذلك المكان، قلت: فإن قتل آخر؟ قال يضاعف عليه)[18].
قتل النفس:
الجدير بالذكر أن هذه الكبيرة (القتل)تشمل قتل الإنسان لنفسه اختيارا (المعروف بالانتحار) الذي يتصور بعض الجهلة أن فيه راحة للنفس وخلاصا من المشاكل والمآزق، ولكنه عدوان وظلم على نفس محترمة لقوله تعالى: (..... وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً)[19]، فقوله تعالى: عدوانا وظلما، أي: عمله بدون حق شرعي.
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها)[20].
مجلة بيوت المتقين العدد (20)
[1] سورة الفرقان: 68.
[2] الأمثل ج11ص313.
[3] سورة الأنعام: 151.
[4] سورة الإسراء: 31.
[5] سورة النساء: 93.
[6] المبسوط للشيخ الطوسي: ج7 ص4.
[7] الكافي للكليني ج7 ص273 ح12.
[8] الكافي للكليني ج7 ص273 ح11.
[9] المهذب للقاضي ابن البراج: ج2، ص454.
[10] الكافي للكليني: ج7 ص271 ح2، أي: في الأمر المتعلق بالدماء.
[11] المهذب للقاضي ابن البرّاج: ج2 ص455.
[12] وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 29 ص13.
[13] الغدير للأميني: ج11 ص59.
[14] الترغيب والترهيب ج3 ص294.
[15] بحار الأنوار للمجلسي: ج101 ص382.
[16] ثواب الأعمال للصدوق: ص276.
[17] سورة المائدة: 32.
[18] الكافي للكليني ج7 ص271 ح1.
[19] سورة النساء: 29-30.
[20] الفقيه للصدوق: ج3 ص571 ح4953.