جامع «كتشاوة» .. مسجد الأربعة آلاف شهيد
على الرغم من امتلاك الجزائر أكثر من 18 ألف مسجد ومنها 233 مسجداً أثرياً بُني في عصور إسلامية مختلفة، إلا أن «مسجد كتشاوة» يعتبر من أشهر المساجد الجزائرية إن لم يكن أشهرها على الإطلاق؛ فالصلاة فيه ذات خصوصية وتشعرك بالارتباط بجذور التاريخ والتمسك بنهج الإسلام وهو مالا تشعر به إلا في المساجد الأثرية.
ويحظى هذا المسجد بمكانة خاصة في نفوس الجزائريين، وبخاصة سكان «القصبة» عاصمة الحكام العثمانيين في الجزائر (1517- 1830)، فهو ذو هندسة معمارية بديعة كما يعدُّ رمزاً للهوية الإسلامية للبلد ومقاومة سياسة التنصير الفرنسية طيلة 132 سنة من الاحتلال.
بُني هذا المسجد العريق في عام1613م، إلا أن (حسن باشا) أحد الحكام العثمانيين الذين تعاقبوا على حكم الجزائر، لم تعجبه الهندسة المتواضعة للمسجد فقرر توسيعه وزخرفته ليكون في أبهى حلّة، وانتهت عملية التوسيع الضخمة سنة 1792، وكان آية في الجمال بمآذنه وصومعته وأعمدته المرمرية وفسيفسائه ونقوشه البديعة، وقد أُطلق عليه آنذاك اسم «مسجد كتشاوة».
يمزج المسجد بين الخصائص المعمارية للحضارة التركية والبيزنطية والرومانية الا ان الملامح الاثرية التي بقيت في أركان المسجد تصرّ على انتماء المسجد للحضارة الاسلامية.
سبب التسمية:
«مسجد كتشاوة» معناه مسجد «ساحة العنزة» نسبة ً إلى السوق التي كانت تقام في الساحة المجاورة وكان الأتراك يطلقون عليها اسم: سوق الماعز، حيث إن كلمة كتشاوة بالتركية تعني ساحة العنزة (كيت : ساحة ـ وشاوا : عنزة ).، وهي تسمى الآن «ساحة الشهداء».
المغول مرُّوا من هنا:
بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر في 5 تموز 1830م، قررت الإدارة الاستعمارية سنة 1832م تحويل مسجد «كتشاوة» إلى كاتدرائية حيث قام الجنرال الدوق دو روفيغو القائد الأعلى للقوات الفرنسية ـ الذي كان تحت إمرة قائد الحملة الفرنسية الاستعمارية - دوبونياك - بإخراج آلاف المصاحف الموجودة فيه إلى ساحة الماعز المجاورة التي صارت تحمل فيما بعد اسم ساحة الشهداء، ومزقها وأحرقها عن آخرها أمام الملأ، وقد شبَّه بعض المؤرخين الجزائريين هذه الجريمة الشنعاء بجريمة هولاكو الذي أحرق مكتبة بغداد إثر احتلالها في القرن الثالث عشر ميلادي. وأدى القرار الفرنسي وجريمته بحق المصاحف الشريفة إلى اعتصام أربعة آلاف مصل جزائري داخل مسجد «كتشاوة» للذود عنه ومنع تحويله إلى كاتدرائية، فجُنَّ جنون المستعمِر وقام جنودُه بمحاصرة المسجد واقتحامه وإخراج كلِّ المصلين عنوة إلى الساحة المجاورة وقتلهم جميعاً بدم بارد، فكانت هذه المجزرة أحد أفظع الجرائم الاستعمارية الفرنسية بحق الجزائريين، وبعد استقلال الجزائر في 5 تموز 1962م أُطلق اسم «ساحة الشهداء» على الساحة التي أُعدم فيها المصلون تخليداً لذكرى الـ 4 آلاف شهيد الذين استشهدوا دفاعاً عن مسجد «كتشاوة».
وقد قام الجنرال روفيغو بعد ذلك بتحويل الجامع إلى إسطبل، وبعد ذلك تم تحويله إلى كنيسة، وكان يقول: «نريد أجمل مسجد في المدينة لنجعل منه معبداً للمسيحيين» . وحينما حققت فرنسا هدفها بتحويل مسجد «كتشاوة» إلى كاتدرائية في تشرين الثاني 1832م، أزالت عنه إشارة الهلال ورفعت بدلها العديد من الصلبان على جوانب «كتشاوة» كما أُدخلت تغييراتٍ عديدة على واجهته لينسجم مع طابع البناءات الكنسية، فأزيلت العديدٌ من المعالم ذات الخصوصية الإسلامية واسمته «كاتدرائية القديس فيليب» وقال قائدُ الحملة الاستعمارية الفرنسية آنذاك: «الآن انتصر الصليب على الهلال، فلأول مرة يثبت الصليب في بلاد الأمازيغ»، وصلى المسيحيون فيه أول صلاة مسيحية ليلة عيد الميلاد 24/كانون الأول/1832م، واحتفلت فرنسا بهذا الانتصار، فبعثت الملكة إميلي زوجة لويس فيليب هداياها الثمينة للكنيسة الجديدة، أما الملك فأرسل الستائر الفاخـرة، وبعث البابا غريغور السادس عشر تماثيل للقديسين.
وحُرم السكان المسلمون من أداء صلواتهم في «كتشاوة» مدة 132 سنة، واُستبدلت بالصلوات المسيحية للجنود والمعمِّرين الفرنسيين بالجزائر.
الهلال يقهر الصليب:
بعد استعادة الجزائر سيادتَها في صيف 1962م، أُعيد«كتشاوة» إلى دائرة الإسلام؛ مسجداً كما كان أول مرة، وأُزيلت كل الصلبان التي كانت منتصبة فوق مآذنه وقبابه، وكان ذلك بمثابة إعلان واضح عن هزيمة المسيحية بالجزائر وعودة شمس الإسلام لتشرق بقوَّة. وقد أقيمت في مسجد «كتشاوة» أول صلاة جمعة يوم 2 تشرين الثاني 1962م، وكان خطيبها العالم الجزائري البشير الإبراهيمي وكانت هذه هي الجمعة الأولى التي تقام في ذلك المسجد بعد مائة عام من تحويل الاحتلال الفرنسي هذا المسجد الشهير إلى كنيسة، واستقطبت هذه الصلاة عدداً هائلاً من الجزائريين الذين غصَّ بهم المسجد وساحته بعد أن جاؤوا من كل حدب وصوب للاحتفال بهذا النصر العظيم على المسيحية وعودة «كتشاوة» إلى دائرة الإسلام مجدداً.
ترميم المسجد:
نالت عوامل الطبيعة وفي مقدمتها الزلازل من المسجد فأضحى مهدداً بالانهيار حيث اكتشف المهندسون المعماريون مَيَلانا في صومعته بنحو30 سنتيمترا وهو ما شكّل خطرا على المصلين، مما دفع السلطات إلى إغلاقه في الثاني من رمضان 2008م، وإحاطته بسياج حديدي لمنع الناس من الاقتراب منه ريثما تتمُّ عملية ترميم مئذنته وبعض جدرانه المتصدِّعة، وسقفه بعد أن بدأت تتسرب منه الأمطار وأضحت خطراً على المصلين لأنها مهددة بالتداعي والانهيار في أية لحظة ويجب الحؤول دون ذلك بأية وسيلة نظراً للمكانة العظيمة للمسجد في نفوس الجزائريين، خصوصا بعد أن تضررت المآذن والصومعة والجدران كثيراً من زلزال 21 مايو 2003م.
وبالرغم من ذلك يبقى جامع كتشاوة معلماً تاريخياً في غاية الجمال، حيث يُعد من أبرز وأروع المعالم التاريخية التي تحتضنها القصبة في الجزائر العاصمة، وأتت عمارته متناسقة مع أحياء القصبة لدرجة أنه بدا جزءاً من كل، وسيبقى تاريخ مسجد كتشاوة مرتبطاً ببطولات حي القصبة العتيق وكذا أحد رموز الجزائر ومحراب الأئمة وعلماء الدين
ملامح أثرية على جدران كتشاوة تؤكد قوة الانتماء للثقافة الإسلامية:
المشاهد لجامع كتشاوة يكتشف تعاقب الآثار عليه من بنائه وإلى يومنا هذا، والتي منها جملة من الكتابات الرائعة التي تمتد بتشكيلها إلى الامتداد الثقافي الإسلامي، والتي تم فصلها في العام 1855م حيث تم نقلها إلى متحف بفرنسا، واستبدلت بنقوش أخرى تعكس الواقع الثقافي الديني الفرنسي.
ومن جملة الزخارف والنقوش التي كانت مكتوبة آيات قرآنية، أبدعتها يد الخطاط إبراهيم جاكرهي أثناء إنشاء المسجد في العهد العثماني.
النشاط العلمي للمسجد:
لقد ظل مسجد كتشاوة ولا يزال بمثابة القلعة العلمية التي تمدّ الناس بما يمكن أن يبصّرهم بتعاليم الدين الحنيف، ولقد دأب رواده على قراءة الراتب، وهو حزب من القرآن يقرأ قبيل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، بطريقة جماعية، ناهيك عن تحفيظ القرآن الذي دأب إمام المسجد على القيام به لصالح الكبار.
أما بالنسبة لشهر رمضان فقد دأب القائمون على المسجد على تنظيم ندوات كل جمعة بعد صلاة العصر يحضرها كبار المشايخ من الجزائر، حيث تضطلع بمناقشة ما يتعلق بضرورة معرفته من شؤون الدين، هذا بالإضافة إلى البرنامج السنوي لتحفيظ الصغار القرآن يوميا من العصر إلى صلاة العشاء، وقد أثمر هذا البرنامج على تخرج المئات من حفظة القرآن الكريم، هذا إضافة إلى تعليم النساء وتحفيظهن القرآن بإشراف إمام المسجد، أو بإشراف مرشدة يزكيها الإمام.
كما يحظى مسجد كتشاوة باستقبال العلماء الكبار الوافدين إلى الجزائر من مختلف ربوع العالم الإسلامي، حيث تقام دروس يحضرها الآلاف من المصلين.
ورغم مرور الزمن لا يزال هذا المسجد يحافظ على تاريخه ويصارع تقلبات الزمن حيث يتواجد في الواجهة البحرية للعاصمة الجزائرية فالداخل إلى حي القصبة العتيقة يتراءى له من بعيد الجامع الذي يتوسط ساحة الشهداء التي أصبحت اليوم سوقا تجاريا مفتوحا على كل المنتوجات المحلية الصنع.
المصدر: بيوت المتقين (33) شهر رمضان 1437هـ