قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ)
اشترط الله تعالى على الإنسان شروطاً للنجاح في ميادين السباق إلى الخيرات، ومن هذه الشروط الإيمان بآيات الله تعالى بعد الإيمان به، فما هو الإيمان بآيات الله؟
الرأي الأول: آيات الله هي المخلوقات الدالَّة على وجوده وكل ما يدل عليه تعالى بوجه، ومن ذلك رسله الحاملون لرسالته وما أُيدوا به من كتاب وغيره وما جاؤوا به من شريعة، فالمؤمنون يصدّقون بها ويقرّون ويعتقدون بحجج الله تعالى وكتبه ورسله، فالأنبياء (عليهم السلام) حجج الله تعالى كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((... إن الأنبياء حجج الله في أرضه، الناطقون بكتابه، العاملون بوحيه...))[1].
وهكذا الأئمة (عليهم السلام) حجج الله تعالى كما قال الرضا (عليه السلام): (نحن حُجج الله في خلقه، وخلفاؤه في عباده، وأمناؤه على سرّه، ونحن كلمة التقوى، والعروة الوثقى، ونحن شهداء الله وأعلامه في بريّته، بنا يُمسك الله السماوات الأرض أن تزولا، وبنا يُنزل الغيث وينشر الرحمة، ولا تخلو الأرض من قائم منا ظاهر أو خاف، ولو خلت يوما بغير حجة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله)[2].
فكل ما في الكون آيات تدل عليه تعالى يقول عز وجل: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[3].
والآيات الآفاقية تشمل خلق الشمس والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها، وخلق أنواع الأحياء والنبات والجبال والبحار وما فيها من عجائب وأسرار لا تعدّ ولا تحصى، وما في عالم الأحياء من عجائب لا تنتهي، إن كل هذه الآيات هي دليل على التوحيد وعلى وجود الله تعالى.
أما الآيات الأنفسية فمثل خلق أجهزة جسم الإنسان، والنظام المحيّر الذي يتحكّم بالمخ وحركات القلب المنتظمة والشرايين والعظام والخلايا، وانعقاد النطفة ونمو الجنين في ظلمات الرحم، ثم أسرار الروح العجيبة، إن كل ذلك هو كتاب مفتوح لمعرفة الإله الخالق العظيم.
ولا بأس هنا من ذكر هذين المثالين:
المثال الأول: الجميع يعرف أن هناك تقوّسا في أخمص قدم كل إنسان بحيث لا يبدو الأمر مُلفتا للنظر مطلقا، ولكن الإنسان الذي يفتقد مثل هذا التقوس يتعب بسرعة، ولا يملك الاستعداد الكافي للمشي الطويل، هكذا كل شيء في هذا العالم وفي وجود الإنسان مخلوق بدقة ونظام، حتى التقوس البسيط في أخمص قدم الإنسان!
المثال الثاني: في داخل فم الإنسان وعينه منابع فوارة منتظمة ودقيقة الإفراز، يخرج من فتحتها الصغيرة على مدى حياة الإنسان سائلان مختلفان تماما، لولاهما لما استطاع الإنسان أن يكون قادرا على الرؤية أو التحدث أو مضغ الطعام وبلعه، وبعبارة أخرى: إن الحياة مستحيلة بدون هذين السائلين العاديين ظاهرا! فبدون أن يكون سطح العين رطبا بشكل دائم يستحيل دوران الحدقة التي ستصاب بآلام كثيرة والأذى بمجرد ملامستها لأجسام صغيرة، بل ستمنعها هذه الأجسام عن الحركة.
كذلك إذا لم يكن فم الإنسان وبلعومه رطبا، فإن الكلام يصبح أمرا مستحيلا بالنسبة له، وكذلك مضغ الطعام وبلعه. بل وحتى التنفس إذا كان الفم جافا، وكذلك ينبغي أن تكون التجاويف الأنفية رطبة دائما حتى يسهل دخول الهواء ومروره باستمرار.
ونفس الكلام يقال بالنسبة للغدد اللعابية في الفم، فقلة إفرازاتها تزيد من جفاف اللسان والفم والبلعوم، وكثرته تعوق التحدث وتجعل اللعاب يسيل من الفم إلى الخارج.
ثم إن المذاق الملحي للغدد الدمعية يؤدي إلى حفظ أنسجة العين ضد الأجسام الغريبة بمجرد دخولها إلى العين، بينما يفتقد اللعاب لأي طعم، كي يستطيع الإنسان أن يشعر بالمذاق الخاص للأطعمة.
وإذا تجاوزنا جسم الإنسان فإن روحه بؤرة للعجائب بحيث حيّرت جميع العلماء، وثمة آلاف الآلاف من هذه الآيات البينات التي تشهد جميعا (أنه الحق).
وهنا يلتقي صوتنا - بدون إرادة منا - مع صوت الحسين (عليه السلام) ونقول: (عميت عين لا تراك)![4].
يمكن أن نطرح هنا هذا السؤال وهو: هل الإيمان وحده كاف حتى لو خُلّي من جميع الأعمال الصالحة؟
ونجيب: صحيح أن المؤمن يمكن أن يزلّ أحيانا ويرتكب بعض الذنوب المعاصي ثم يندم على فعله ويعمد إلى إصلاح نفسه، ولكن من لم يعمل أي عمل صالح طوال حياته، ولم يستغل الفرص الكثيرة والكافية لذلك، بل على العكس من ذلك صدر منه كل قبيح ووقعت منه كل معصية، واقترف كل إثم، فإنه يبدو من المستبعد جداً أن يكون من أهل النجاة، ومن الذين ينفعهم إيمانهم، لأنه لا يمكن أن نصدق بأن شخصا ينتمي إلى دين من الأديان، ولكنه لا يعمل بأي شيء من تعاليم ذلك الدين ولا مرة واحدة في حياته، بل كان يرتكب خلافها دائما، إذ أن حالته وموقفه هذا دليل قاطع وبيّن على عدم إيمانه، وعدم اعتقاده.
وعلى هذا الأساس يجب أن يقترن الإيمان ولو بالحد الأدنى من العمل الصالح، ليدل ذلك على وجود الإيمان[5].
عن ابن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد (عليه السلام) - وقد سئل عن قوله تعالى: (قُلْ فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) - فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي! أكنت عالما؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلا قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصم فتلك الحجة لله عز وجل على خلقه)[6].
الرأي الثاني: آيات الله هي آيات القرآن الكريم، وليس الإيمان بآيات القرآن هو كثرة تلاوتها، أو الانشراح عند سماعها بصوت حسن، بل إن الإيمان الحق بآيات الله في قرآنه، غير ما يفهم الكثير من الناس، فقد جاء في الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)[7].
وعليه فالإيمان بالقرآن وآياته، هو العكوف على آيات الله ليلاً ونهاراً، يتدبّر المؤمن كلامَ الله وحكمه، ويتفهّم عِظاته ووصاياه، فينفّذ أوامر الله بكل دقة وحزم وبكل همّة وعزم، ويجتنب محارم ربه بتمام الورع والتقوى، لا يبالي عند ذلك أرضي الناس أم سخطوا، ألام اللوام أم لم يلوموا، أرضيت نفسه أم سخطت.
إن من يقرأ آيات الله ويعرض عن فهمها، ولا يقصد من تلاوة القرآن معرفة الأحكام من حلال وحرام وعظات وأخلاق، ليقف عند الحلال فلا يتعداه ويمسك بنفسه عن الحرام فلا يرتكبه، إن من يتلو عظات الله، ويسمع نداء ربه إلى التخلق بمكارم الأخلاق، والاتصاف بالصفات الإنسانية الرفيعة النبيلة، ثم لا يعي عظات ربه ولا يتعظ قلبه بها ولا يلبّي نداء ربه إلى التخلق بكريم الأخلاق وجميل الصفات، إن هذا القارئ يعتبر في الحقيقة والواقع مُعرضاً عن آيات ربه، في حكم المستهزئ بها، والمهين والمحتقر لها، وإلا فما معنى تلاوة المرء قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى)[8]، وهو مصرٌّ على عقوق والديه، قاطع للأرحام، متمرد على إعطاء اليتامى والمساكين، حقوقهم في ماله وثروته مسيء لجيرانه، وما معنى من يتلو قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)[9]، وهو ساهٍ غافل في صلاته؟ لا خشوع له ولا حضور قلب له مع ربه؟ وفي الوقت نفسه حديثه معظمه لغو وباطل وهو منّاع للزكاة غير مؤدٍ لها؟
أليس هذا التالي أو المستمع لآيات الله يعتبر مهيناً لربه، مستخفاً بآياته يسمع ويتلو خطاب ربه ثم يعمل على عكسه وخلافه، في الوقت الذي لا يحاول أن يفهم آيات الله ويتدبرها، يقول الله تعالى في كلمات قدسية وردت في التوراة: (يا عبدي أما تستحي مني: يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفا حرفا حتى لا يفوتك شيء منه، وهذا كتابي أنزلته إليك، أنظر كم فصّلت لك فيه من القول، وكم كررت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه ثم أنت معرض عنه، أفكنتُ أهونَ عليك من بعض إخوانك! يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك، فان تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كف، وها أنا ذا مقبل عليك ومحدّث لك وأنت مُعرض بقلبك عني، أفجعلتَني أهونَ عندك من بعض إخوانك؟)[10].
وأخيرا نقول: وعد الله عز وجل المؤمن الصادق، التقي العالم المخلص بخير الدنيا والآخرة، وبالرفعة والسؤدد، وبالمجد والكرامة والنصر، في حياته الأرضية والسماوية، في مثل قوله تعالى: (فَآتَاهُمْ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)[11].
وبيّن الله أن من صفات المؤمنين الصادقين ومن مناقبهم وأخلاقهم أن يكونوا مؤمنين بآياته فاهمين لها وعاملين، منفذين ومطبقين، ومن لا يعمل فليسأل من يعلم ويفهم، كما قال تعالى: (فاسْأَلُوا أهلَ الذِّكْرِ إن كُنْتُم لا تعلمونَ بالبيِّناتِ والزُّبُر)[12].
مجلة بيوت المتقين العدد (10)
[1] مستدرك الوسائل ج14/ص206.
[2] كمال الدين ص203 ح6.
[3] فصلت 53.
[4] تفسير الأمثل 15/454-458.
[5] تفسير الأمثل: 4/527.
[6] بحار الأنوار ج7/ص286 ب13 ح1.
[7] كنز الفوائد ص 163.
[8] النساء الآية: 35.
[9] المؤمنون الآية: 1-4.
[10] إحياء علوم الدين للغزالي ج3 /ص501.
[11] آل عمران الآية: 148.
[12] النمل الآية: 43 ـ 44.