خلق الله الإنسان كائناً اجتماعياً بالطبع والفطرة، فهو من المخلوقات التي تحب أن تعيش في جماعات بروابط كلية أو جزئية، ولا ترغب في حياة انفرادية ويشعر عند انفراده بخلل واضح في حياته، يتجسد في انفعالاته النفسية والسلوك العام.
يقصد بالتعايش السلمي العيش مع الآخر المختلف في الثقافة والرأي بحيث يكون ما به الاختلاف باب للفائدة والاستفادة من الآخر بطريقة سلمية سليمة من الصفات والانفعالات السلبية التي تؤثر على أساس التفاعل الاجتماعي مع الآخر، بل تكون عملية تنافس في الأفكار والمعتقدات التي يؤمن بها شخص أو أشخاص وفق قناعات ومقدمات خاصة.
ولابد من أسس يستند عليها الفرد الطامح لتطبيق التعايش السلمي، ذكر القرآن الكريم الكثير منها:
1) لا بديل للسلام في أي خلاف أو نزاع، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾[1].
وقال جل وعز: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ الأنفال:61
2) الإحسان للآخرين: يقول اللّه تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾.[2]
فهذه الفئات الاجتماعية التي دعا الله تعالى التعامل معها بالإحسان تحقق مساحة واسعة من التعايش السلمي، بدءاً بالأسرة انتهاءً بابن السبيل، الذي لا يربطه بالمحسن غير لقاءِ عابر، أما الوالدان فالإحسان إليهما يمثل المظهر الأبرز للتعايش السلمي الأسري الذي لا تخفى أهميته وتأثيره على أفراد الأسرة وتقديمهم إلى المجتمع كعناصر فعالة في بنائه البناء الصحيح، ولا فرق في ذلك إن كانا صالحين أو غير صالحين، بل حتّى ولو أمراه بالشّرك لا تسقط دعوة الإحسان إليهما، يقول اللّه تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ .[3]
3) التعامل باللين مع من لم يقاتل المسلمين، قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.[4]
فالآية تدعو إلى البرّ مع من لم يقاتلوا المسلمين في دينهم وعقيدتهم، ولكن ينبغي أن يكون هذا التعايش قائماً على الثّقة والاحترام المتبادلين، ومن الرّغبة في تفعيل الجانب الإنساني وعمارة الأرض، وعدم المساس بكرامة الإنسان من قريب أو من بعيد، وتجنب ما لا نفع فيه من المواقف.
4) العفو عن المسيء: وثمة آيات كثيرة واضحة الدلالة على هذا المعنى، منها قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.[5]
ومنها: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.[6]
حيث أن العفو من المبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقيّة التي حث عليها الدّين الإسلامي، حيث كان النّبي (صلى الله عليه وآله) حليماً صبوراً على الأذى في النّفس والمال. ومن أمثلة ذلك عفوه (صلى الله عليه وآله) على أعدائه، أولئك الذين آذوه بشتى أنواع التعذيب ونالوا منه بالتسقيط والافتراء، ففي يوم فتح مكّة حيث اجتمع النّاس في مكّة أمام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وكلّهم في خوف ووجل مما سيصدر من النبي (صلى الله عليه وآله)، بل كانوا يتوقعون منه ردّاً انتقاميا شديداً، لكنه (صلى الله عليه وآله)، فصدمهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فاجأهم بسماحته وحلمه وعلو أخلاقه فعفا عنهم جميعاً.
5) الإصلاح بالخير في النزاعات: من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [7]
ومن الأسلوب القرآني الجميل في هذه الآية التعبير بالإخوة كون هذه العلاقة القائمة على هذه الرابطة الإنسانية القوية تستدعي الإصلاح عند حصول ما يعكرها أو يخفف أواصرها.
وكما أن القرآن الكريم يحث ويدعو للإصلاح في الجانب الفردي، أيضاً يتبنى نفس المبدأ في النزاع الجماعي، قال الله تعالى في ذلك: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.[8]
6) الحوار الإيجابي: وهو الذي يقوم على أساس إحقاق الحق وبيانه كي يكون له التبعية والحكم، وهو أمر عقلائي، بخلاف الحوار السلبي الذي يقوم على الغلبة الشخصية والانفعالات السريعة والتزمت بالراي والفكرة، وقد بين القرآن الكريم طريقة الحوار الإيجابي بقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.[9]
كما أن الآية تبين أن الواجب المثمر في دعوة الناس والمجتمع هو الموعظة الحسنة، وليس من الضرورة أن يؤثر هذا الأسلوب في الآخر، فالضال المعاند والمنحرف لا يتأثر ولا يستجيب للهداية، وأمره إلى الله تعالى.
ومن الملاحظ أيضاً أن القرآن الكريم حث على الأسلوب والحوار الحسن حتى مع الأديان الأخرى، ولو كان في العقيدة الإسلامية إن الدين الحق والمعتبر المقبول من الإنسان هو دين الإسلام، ولن يقبل منه غيره، لكن لما كان الكثير من الشعوب مازالت تدين بأديانها السماوية الأخرى، ويحتاج المسلمون إلى التعايش معهم ولو لأجل دعوتهم لإسلام وهدايتهم، فلا بد أن يكون بأسلوب حسن، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.[10]
إن هذه المضامين المتقدمة في تحقيق التعايش السلمي، والتي ركز عليها الإسلام كثيراً في كثير من الآيات الكريمة، ذلك ناشئ من النظرة الإسلام للإنسان، حيث جعل الإنسانية من خصائصه المهمة، وأوسع لها حيزاً مهماً في نظرياته فضلاً عن الجانب السلوكي والعملي، فجعل للإنسان حقوقه الكاملة غير المنقوصة في الحرية والكرامة والحياة الكريمة، ومنع الاعتداء على أحد أو المس بكرامته أو تحقيره، أو الاستخفاف به، كذلك كانت عليه واجبات يؤدّيها تجاه المجتمع وأفراده في أجواء هادئة وناعمة، ذلك لأن الله خلق الناس من نفس واحدة، أعلن الإسلام في مكنون آياته أن الناس جميعاً قد خُلقوا من نفسٍ واحدة، مما يعني أنهم مشتركون في وحدة الأصل الإنساني، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).[11]