هل أن معرفة الله تعالى بالنسبة للإنسان بديهية أم نظرية؟
وللحديث في هذا الموضوع لا بد من بيان معنى السؤال فما المقصود من البديهي والنظري؟
الضروري أو البديهي أو الفطري: هو العلم الذي لا يحتاج في حصوله إلى نظر وفكر واستدلال، وإنما يحصل بالاضطرار والبداهة، من دون توقف على أي شيء آخر، مثل تصور مفهوم الوجود والعدم، وعلمنا بأن الكل أعظم من الجزء، وبأن النقيضين لا يجتمعان، وبأن الواحد نصف الاثنين وهكذا.
النظري أو الكسبي: هو ذلك العلم الذي يحتاج إلى نظر وفكر واستدلال، كتصورنا لحقيقة الروح، وأن الأرض متحركة حول نفسها وحول الشمس، وأشباه ذلك.
وبعد فهم معنى السؤال نأتي لنقرّر ما هو الجواب المناسب؟
إن القرآن الكريم في بعض الآيات الكريمة ينفي الشكَّ في معرفة الله تعالى، مما يشير إلى أن معرفته تعالى أمر فطري بديهي، منها قوله تعالى: (أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[1]، فهذا من الاستفهام الإنكاري، أي أن الله ينكر على الإنسان أن يكون لديه شك في الله تعالى، والخطاب موجه للجميع المؤمن والكافر على حد سواء.
ومنها قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)[2].
حيث ورد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سنان عن أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: (فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا) مَا تِلْكَ الْفِطْرَةُ؟ قَالَ: «هِيَ الإسلام فطرهم اللهُ حِينَ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ عَلَى التوحيد قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ وفِيهِمُ الْمُؤْمِنُ والْكَافِرُ»[3].
وورد عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (حُنَفَاءَ لِله غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ...)[4]، وعن الحنيفية، فقال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله، وقال: فطرهم الله على المعرفة.
قال زرارة: وسألته عن قول الله عزوجل: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ...)[5]، قال: أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرِّ، فعرفهم وأراهم صنعه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه، وقال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): كل مولود يولد على الفطرة. يعني على المعرفة بأن الله عز وجل خالقه، فذلك قوله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله...)[6].
وعلى هذا يمكن أن نفترض سؤالاً آخر متفرعاً على ما قدمنا، وهو أن الكثير من الآيات الكريمة ذكرت قضايا نظرية في معرفته تعالى، كقوله سبحانه: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَاQفَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)[7]، وهو استدلال واضح، فكيف نوفق بين الفطرة البديهية السابقة وهذا الاستدلال؟
والجواب:
إن هذا الاستدلال ليس معناه أن المعرفة نظرية، بل جاءت به الآيات القرآنية للتنبيه، فإنّ الإنسان قد يغفل عن بعض الأمور البديهية فيحتاج إلى تنبيه.
كذلك الكافر الذي ينكر فطرته وبديهته عناداً وتكبراً، فإنه يخاطب بأمور عقلية نظرية ليعود إلى تلك الفطرة، وهذا الأسلوب في التعامل مع المنكرين أو الغافلين ورد في القرآن الكريم في غير موضوع المعرفة أيضاً، فقد جاء التذكير بالنعم السابغة على الإنسان في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ)[8]، وقوله تعالى: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[9]، بل إن القرىن صرّح بهذا المنهج التذكيري، كما في قوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ)[10]، وَقَوْلِهِ سبحانه: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)[11]، وَقَدْ بيّن أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ هذه القضية بقوله: «فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْف فَوْقَهُمْ مَرْفُوع، وَمِهَاد تَحْتَهُمْ مَوْضُوع، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَآجَال تُفْنِيهمْ، وَأَوْصَاب تُهْرِمُهُمْ، وَأَحْدَاث تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ»[12].
مجلة اليقين العدد (53)
[1] إبراهيم: آية 10.
[2]الروم: آية 30.
[3] التّوحيد، الشيخ الصدوق: ج1، ص329.
[4] الحج: آية 31.
[5] الأعراف: آية 172.
[6] الزمر: آية 32، التّوحيد، الشيخ الصدوق: ج1، 330.
[7] الأنبياء: آية 22.
[8] المائدة: 7.
[9] الأعراف: 69.
[10] الغاشية: 21.
[11] الإنعام: 60.
[12] نهج البلاغة، السيد الشريف الرضي: ص34.