ثواب العالم والمتعلم

من كتاب الكافي

1- عن حمّاد بن عيسى، عن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وإنه يستغفر لطالب العلم مَن في السماء ومَن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر).

2- عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الذي يعلم العلم منكم له أجر مثل أجر المتعلم، وله الفضل عليه، فتعلموا العلم من حملة العلم وعلموه إخوانكم كما علمكموه العلماء).

3- عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من علم خيراً فله مثل أجر من عمل به، قلت: فإن علمه غيره يجري ذلك له؟ قال: إن علمه الناس كلهم جرى له قلت: فإن مات؟ قال: وإن مات).

4- عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من علم باب هدى فله مثل أجر من عمل به ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئاً، ومن علم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً).

5- عن حفص بن غياث، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (من تعلم العلم وعمل به وعلم الله دعي في ملكوت السماوات عظيما، فقيل: تعلم لله وعمل لله وعلم الله).

٦- عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: (لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال: إن أمقت عبيدي إلى الجاهل المستخف بحق أهل العلم التارك للاقتداء بهم، وإن أحب عبيدي إلى التقي الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء، التابع

للحكماء، القابل عن الحكماء).

قوله (عليه السلام): (لو يعلم الناس) أي علماً يقيناً.

(ما في طلب العلم) من الشرف والكمال والمنافع والحياة الأبدية للنفس بعد رقودها في مهد القبر، وفي هذا الإبهام تنبيه على عظمة قدر تلك المنافع وعلو منزلتها في هذه الحياة بحيث لا يبلغ إليها إلا الوالهون في مقام التوحيد والسالكون في منهاج الأنبياء والأولياء، وحياة قلوبهم بأقوات المعارف والحقائق، وغاية مأمولهم الاستضاءة بأنوار اللطائف والدقائق وابتهاج أذهانهم بكشف الأسرار الربوبية، وهم الذين قد قطعوا منازل الطلب ووصلوا إلى المطلوب، وأما غيرهم وهم الأكثرون عدداً فمنهم من لا يعرفون العلم وفوائده أصلا ولا يجدون إلى منافعه دليلا أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، ومنهم لا يعرفون منه إلا الرسم ولا يفهمون منه إلا الاسم ولا يتصورونه إلا أن طلبه يوجب الخروج من

حضيض الجهالة والضلال إلى أوج السعادة والكمال، ولا يعرفون كنه حقيقة تلك الحالات ولا يجدون في نفوسهم حلاوة تلك اللذات وإنما ينطقون باسمها ويغفلون عن حقيقتها ووصفها وذلك مبلغهم من العلم، وكم من فرق بين تصور اسم الكمالات وبين معرفتها بالوصول إليها كما هي والإحاطة بها، كما يظهر ذلك بالفرق بين تصور اسم الجنة مثلاً وبين معرفتها كما هي، ومعرفة نسيمها وكثرة نعيمها بعين المشاهدة، فإن من حصلت له هذه المعرفة يرى بدنه في هذه الدار وروحه في دار القرار، وليس له هم إلا الوصول إليها، بخلاف من حصل له ذلك التصور فإنه كثيراً ما يشتغل بزهرات الدنيا ومتمنيات النفس عن طلبها كما هو المشاهد من الأشرار، ولو يعلم هؤلاء بعين البصيرة ما في طلب العلم (لطلبوه ولو بسفك المهج) السفك الإراقة، والمهج جمع المهجة، وهو الدم مطلقاً، أو دم القلب خاصة، ويطلق على الروح أيضا يقال: خرجت مهجته إذا خرجت روحه، وسفك المهج كناية عن ارتكاب التعب والمشقة الشديدة في طلبه.

وقوله (عليه السلام): (وخوض اللجج) الخوض في الماء الدخول فيه، واللجج - بالجيمين - جمع اللجة وهي معظم الماء، ويحتمل بعيداً من حيث اللفظ والمعنى أن يقرأ بفتح اللام وكسر الحاء المهملة والجيم بعدها، وهو بمعنى الضيق، يقال: مكان لحج، أي ضيق وخوض اللجج أيضا كناية عن الوقوع في المكاره الكثيرة والشدائد العظيمة.

وما ذكره (عليه السلام) من عدم طلبهم للعلم لعدم علمهم بشرفه وفضله ومنافعه حق صريح وكلام صحيح، لأن الناس مجبولون في طلب المنافع، ألا ترى أنهم يقتحمون الأسفار البعيدة والمفاوز المخوفة والبحار العميقة بمجرد ظن المنافع لهذه الحياة الفانية مع ضمان الله تعالى أرزاقهم؟ ولو كان لهم مثل هذا الظن في منافع العلم التي هي سبب للحياة الأبدية بل هي عينها لطلبوه أيضا كما يطلبون الدنيا.

ثم قال (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال (عليه السلام)) وهذا الإيحاء ما هو إلا حث وتأكيد على أهمية طلب العلم.

وقوله (عليه السلام): (إن أمقت عبيدي إلى الجاهل) المقت الابغاض، يقال: مقته مفتاً إذا أبغضه فهو مقيت وممقوت، ومعنى مقت الله تعالى لعبده هو إبقاؤه له وراء الحجاب، وعدم تفضله عليه بالتوفيق على تحصيل الثواب وإيكاله إلى نفسه المشتاقة للاقتحام في مسالك العصيان، والاتصاف بصفة العدوان والطغيان، حتى تؤديه إلى أقصى حالات الإبعاد عن رحمة رب العالمين، وتقوده إلى أقبح المنازل في أسفل السافلين.

وقوله (عليه السلام): (المستخف بحق أهل العلم التارك للاقتداء بهم) الظاهر أن كلا من المستخف والتارك وصف للجاهل، وعلة مستقلة لتعلق المقت به، ويحتمل أن يكون التارك وصفا للمستخف وبياناً له، ويؤيده إدراج لفظ الحق، لأن من حقوق أهل العلم على الجاهل اقتداؤه بهم، فإذا ترك الاقتداء فقد استخف بحقهم، وإنما وصف الجاهل بما ذكر لأن الجاهل المعظم لأهل العلم المقتدي بهم محب لهم ومتعلم منهم، وهو من أهل المحبة دون المقت.

وقوله (عليه السلام): (وإن أحب عبيدي إليَّ) المحبة ضد المقت، وهي إحسانه تعالى للعبد بكشف الحجاب وتوفيقه في تحصيل الثواب وحفظه عن مقام الزلة وإيقاظه عن نوم الغفلة وتأديبه بأدنى المخالفة، وتوفيقه إلى السعادة الأبدية حتى يطأ بقدم الإخلاص على بساط العلوم الباقية، وبذلك يصل الى منازل القرب الإلهي.

وقوله (عليه السلام): (التقيّ) أي الخائف من الله تعالى، وللتقوى مراتب:

أولها: التحرز من الشرك، وهو يحصل بكلمة التوحيد.

وثانيها: التجنب عن المعاصي، وهو يحصل بالتزام الأوامر واجتناب المناهي.

وثالثها: التنزه عما يشغل القلب عن الحق وهو يحصل بالانصراف عن حب الدنيا وملذاتها الفانية، وهذه أعلى المراتب التي لا تحصل إلا للمقربين والأولياء.

وقوله (عليه السلام): (الطالب للثواب الجزيل) أي العامل بما يوجب الثواب، وهذا الكلام وصف للتقي وتوضيح له، يعني أن التقي هو الذي يطلب الثواب الجزيل بالتزام التوحيد والأوامر واجتناب الشرك والمناهي.

 وقوله (عليه السلام): (اللازم للعلماء) فيه ترغيب على دوام ملازمة العلماء ومجالستهم ومصاحبتهم ليتنور القلب بأنوار علومهم.

وقوله (عليه السلام): (التابع للحكماء) فيه تنبيه على أن مجرد الملازمة لا يكفي في حصول المقصود، أعني إصلاح الحال، بل لا بد من أن يكون تابعاً لأقوالهم وأعمالهم وعقائدهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن العالم ما لم يكن حليما سليما عن مقتضيات القوة الغضبية والشهوية ليس له شرف الاقتداء به.

وقوله (عليه السلام): (القابل عن الحكماء) فيه تحريض على قبول العلم وأخذه من الحكيم ولو بواسطة، وقد يقال: المراد بالحكماء الأنبياء وبالحلماء الأوصياء، وبالعلماء أهل العلم من الشيعة، وقد اختلفت أقوال الأكابر في الفرق بين العالم والحكيم فقيل: العالم طبيب الدين بأدوية الحق والصدق والتصفح والتعطف، وقيل: من يخلص الناس من أيدي الشياطين، وقيل: هو من لان قلبه وحسن خلقه ورق ذكره ودق فكره ولا يطمع ولا يبخل، وقيل: غير ذلك.

مصابيح الأنام بكل أرض             هم العلماء أبناء الكرام

فلولا علمهم في كل واد                كنور البدر لاح بلا غمام

لكان الدين يدرس كل حين           كما درس الرسوم من الرهام

وقيل: الحكيم هو الذي يطلب ما ينفعه ويترك ما يضره ويقرب منه ما قيل: هو العدل الآخذ بالحق والصواب قولاً وعملاً، وقيل: هو من لا يغضب على من عصى ولا يحقد على من جفا، وقيل: هو من كان كل أفعاله صواباً ولا يدخل في اختياره خلل ولا فساد، وقيل: ليس الحكيم الذي يجمع العلم الكثير لكن الحكيم الذي يعرف صواب ما له وما عليه، وقيل: الحكماء للأخلاق كالأطباء للأجساد، وقيل لعالم من الحكيم؟ قال: من تعلق بثلاثة فيها علم الأولين والآخرين، قيل: وما هي؟ قال: تقديم الأمر، واجتناب النهي، واتباع السنة.

وكيف تريد أن تدعى حكيماً           وأنت لكل ما تهوى ركوب؟

لعل العمر أكثره تولى                     وقد قرب الردى فمتى تتوب؟

وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:

(العلم نهر والحكمة بحر والعلماء حول النهر يطوفون، والحكماء في وسط البحر يغوصون، والعارفون في سفن النجاة يخوضون).

ولكون الحكماء أعظم شأنا وأرفع مكاناً رغب في قبول العلم عنهم، والأخذ منهم وأخرهم للتنبيه على وجوب انتهاء سلسلة العلوم إليهم.

فانظر أيها اللبيب إلى ما في هذا الحديث من شرف وفضيلة العلم وكماله حيث:

بالغ أولاً بأن شيئاً من شدائد الدهر ونوائبه وجب أن لا يكون مانعاً من تحصيله.

وجعل ثانياً الاستخفاف بالعلماء وعدم الاقتداء بهم من أعظم الكبائر الموجب لأعظم مقت الله وسخطه.

وجعل ثالثاً ملازمتهم من أعظم القربات الموجب لأعلى درجات محبته، هدانا الله وإياك إلى مرضاته.

 

مجلة بيوت المتقين العدد (5)