قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)[1].
لازال الكلام في صفات المؤمنين التي ذكرت في سورة الفرقان، ووصل الكلام إلى الصفة الحادية عشر لهذه الفئة المؤمنة، وهي امتلاكهم العين الباصرة والأذن السامعة حين مواجهتهم لآيات الخالق، نعم فالبصيرة من الصفات البارزة لعباد الرحمن، إذ يتفكرون في آيات الله التي تتلى عليهم بحثا عن الحقيقة، يقول تعالى: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يَخِرّوا عليها صما وعميانا) الخرور على الأرض: السقوط عليها وكأنها في الآية كناية عن لزوم الشيء والانكباب عليه، والمعنى: والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم من حكمة أو موعظة حسنة من قرآن أو وحي لم يسقطوا عليه وهم صم لا يسمعون وعميان لا يبصرون، بل تفكّروا فيها وتعقّلوها فأخذوا بها عن بصيرة، فآمنوا بحكمتها واتعظوا بموعظتها وكانوا على بصيرة من أمرهم وبيّنه من ربهم[2].
من المسلَّم أن المقصود في الآية الشريفة ليس الإشارة إلى عمل الكفار؛ ذلك لأنهم لا اعتناء لهم بآيات الله أصلا، بل إن المقصود: فئة المنافقين أو مسلمو الظاهر، الذين يقعون على آيات الله بأعين وآذان موصدة، دون أن يتدبروا حقائقها ويسبروا غورها، فيعرفوا ما يريده الله ويتفكروا فيه، ويستهدوه في أعمالهم، ولا يمكن طي طريق الله بعين وأذن موصدتين، فالأذن السامعة والعين الباصرة لازمتان لطي هذا الطريق، العين الناظرة في الباطن، المتعمقة في الأشياء، والأذن المرهفة العارفة بلطائف الحكمة[3].
فإن الإنسان إنما يرتب الأثر على الأشياء من جهة السماع أو الإبصار، وكأن الإنسان الأصم الأعمى يقع على الشيء المرغوب فيه بلا استفادة منه، أو المنفور منه بلا فرار عنه، بخلاف السميع البصير، فإن السميع يجلبه الترغيب وينفّره الإنذار، والبصير يرى فيُقدم أو يُحجم، والمؤمن يسمع الآيات، ويشاهد الآثار، فيُرتب الأثر، بخلاف غيره[4].
خطر الفئة اللاواعية على الإسلام:
ولو تأملنا جيدا لأدركنا أن ضرر هذه الفئة ذات الأعين والآذان الموصدة - وفي ظنها أنها تتبع الآيات الإلهية - ليس أقل من ضرر الأعداء الذين يطعنون بأصل شريعة الحق عن وعي وسبق إصرار، بل إن ضررهم أكثر بمراتب أحيانا، فهم أداة بيد الأعداء، ولقمة سائغة للشياطين، أما المؤمنون فهم متدبرون مبصرون سامعون كمثل الجبل الراسخ، فلا يكونون لعبة بيد هذا أو ذاك، نقرأ في حديث عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: (سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (والَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وعُمْياناً) قَالَ: مُسْتَبْصِرِينَ لَيْسُوا بِشُكَّاكٍ)[5].
هجر القرآن:
من أبرز مصاديق آيات الله: القرآن الكريم، وهو كلام الله الذي أنزله ليُعمل به ويكون منهاج حياة للناس، ولا شك أن قراءة القرآن قربة وطاعة من أحب الأعمال إلى الله تعالى، لكن مما لا شك فيه أيضاً أن القراءة بغير فهم ولا تدبر ليست هي المقصودة، بل المقصود الأكبر أن يقوم القارئ بالنظر إلى معاني القرآن وجمع الفكر على تدبره وتعقله، والبحث في أسراره وحِكَمه، لذلك فإن عباد الرحمن الصالحين الأتقياء إذا قُرئ عليهم القرآن أو قرؤوه أعملوا عقولهم وآذانهم وعيونهم فتدبروا القرآن وفهموا معانيه وعقلوه وأيقنوه وطبّقوه في حياتهم اليومية تطبيقاً دقيقاً تقرباً إلى الله تعالى وخشية منه ورغبة منهم في إصلاح أنفسهم وإصلاح من يحبون، ولذلك فهم يخرون أي تسجد قلوبهم لله حين يقرؤن القرآن ويُعملون عقولهم فيه لفهمه ولا يصيبهم الصمم ولا العمى أثناء ذلك، أما أولئك الأدعياء الكاذبون الذين يخرون على القرآن صماً وعمياناً بمزاجهم ويخدعون من حولهم ويوحون لهم أنهم أهل القرآن وأهل العلم وأهل المعرفة وهم في الحقيقة لا يتدبرون القرآن ولا يطبّقونه في حياتهم فإنهم في الحقيقة يعيشون كالأنعام صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
مفهوم خاطئ لمعنى التدبر:
إن مما يصرف كثيرا من المسلمين عن تدبر القرآن، اعتقادهم صعوبة فهم القرآن، وهذا خطأ في مفهوم تدبر القرآن، وانصراف عن الغاية التي من أجلها أنزل، فالقرآن كتاب هداية لكل الناس، وهو كتاب هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين، كتابٌ قد يسَّر الله تعالى فهمه وتدبره، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)[6].
إن فهم الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والعلم بالله واليوم الآخر لا يشترط له فهم المصطلحات العلمية الدقيقة، من نحوية وبلاغية وأصولية وفقهية، فمعظم القرآن بيِّنٌ واضح ظاهر، يدركه أي مسلم يفهم اللغة العربية، ففهم القرآن وتدبره ليس صعبا بحيث نغلق عقولنا، ونعلق فهمه كله بالرجوع إلى كتب التفسير.
إن إغلاق عقولنا عن تدبر القرآن بحجة عدم معرفة تفسيره، والاكتفاء بقراءة ألفاظه مدخل من مداخل الشيطان على العبد ليصرفه عن الاهتداء به، وإذا سلمنا بهذه الحجة فما المانع إذا أشكل عليك معنى آية أن تبادر وتسارع للبحث عن معناها والمراد بها لا أن تغلق عقلك فتقرأ دون تدبر أو تترك القراءة.
إذن فالمسلم غير المتخصص في العلوم الشرعية لا يحتاج إلى التوسع في التفسير ومعرفة أوجه القراءات والأحكام الفقهية، إنما يكفيه أن يعرف المعنى ثم يتدبر الآية.
مجلة بيوت المتقين العدد (24)