قال الله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ * قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ)[1].
يتوهم أتباع بعض الفرق الإسلامية أن هذه الآية الكريمة هي نصٌّ في إبطال اتّباع أحد دون رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ويقصدون بذلك الأئمة(عليهم السلام).
وتذكرنا هذه المسألة بحال الخوارج عندما انقلبوا على إمامهم أمير المؤمنين (عليه السلام) تحت شعارهم (لا حكم إلاّ لله)، وكان جواب أمير المؤمنين (عليه السلام) أنها كلمة حق يراد بها باطل.
وهذه الآية الكريمة أيضاً هي كلمة حق وصدق، لكن أُريدَ بها إبعاد أهل بيت العصمة(عليهم السلام) عن مناصبهم ومنازلهم ورتبهم التي رتبهم الله فيها، وقد وجدنا أن أصل هذا الوهم أو الشبهة يرجع إلى كلام ابن حزم في كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) قال فيه: (قال الله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ...)[2]، فهذا نصٌّ في إبطال اتّباع أحد دون رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإنّما الحاجة إلى فرض الإمامة لينفذ الإمام عهود الله تعالى الواردة إلينا، لا لأن يأتي الناس بما لا يشاؤونه في معرفته من الدين الّذي أتاهم به رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ووجدنا علياً (عليه السلام) إذا دُعي إلى التحاكم إلى القرآن أجاب، وأخبر بأنّ التحاكم إلى القرآن حق، ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجوز بحضرة الإمام لقال عليّ حينئذ كيف تطلبون تحكيم القرآن وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله(عليه السلام))[3].
وقد غفل ابن حزم وأتباعه عن أن لو كان الاتّباع منحصراً بالنبي(صلى الله عليه وآله) فما معنى قوله سبحانه: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ..)[4].
ولكي لا يحصل تعارض بين الآيتين الكريمتين، فإما أن نقول أن مضمون آية (وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) مضمون عام، وجاءت آية (أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) تخصص ذلك المضمون العام، وتُخرج (أُولِي الْأَمْرِ) من حكم النهي عن الاتّباع، أو نقول إنّ إطاعة ولي الأمر هي طاعة نفس الرسول(صلى الله عليه وآله)، بقرينة أن الآية لم تكرّر الفعل (أطيعوا) مع (أُولِي الْأَمْرِ)، أي لم تقل: (وأطيعوا أُولي الأمر)، والشيعة الإمامية يقولون بهذا التوجيه، فإنّ إطاعة الإمام(عليه السلام) عندهم عين إطاعة النبي(عليه السلام)، ولو لاحظنا آية المباهلة (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ)[5]، لَتبيّن الحقُّ في المسألة أكثر.
ومن جهة ثانية إنّ وجوب اتبّاع الأئمة(عليهم السلام) عند الشيعة يعود إلى كونهم(عليهم السلام) أحد الثقلين اللذين أمر النبيُّ(صلى الله عليه وآله) بالتمسك به، وهو عِدْل القرآن كما نص عليه حديث الثقلين، فتكون طاعتهم(عليهم السلام) من طاعة النبي(صلى الله عليه وآله).
ثم أننا لو نظرنا إلى حياة المسلمين بعد عهد النبي(صلى الله عليه وآله)، نجد فيها الكثير من المسائل والحوادث لم ترد أجوبتها أو أحكامها في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة للنبي محمد(صلى الله عليه وآله)، مع أننا نعتقد أنّ الإسلام دين مكتمل الأركان، فلابد أن يكون هناك جماعة لهم تربية إلهية ووعي خاص، يجيبون عن هذه الأسئلة المستجدة، والقائم بهذا عند الشيعة هو الإمام المعصوم(عليهم السلام).
أما غير الشيعة فقد استبدلوا مقام الإمام(عليه السلام) بقواعد أُصولية ابتدعوها في الشريعة، وهي عندهم تتكفل بالإجابة عن أحكام المسائل المستحدثة، كالقياس والاستحسان وسد الذرائع، إلى غير ذلك من القواعد، وبذلك استغنوا عن الرجوع إلى أئمة أهل البيت(عليهم السلام) الذين هم عيبة علم الرسول(صلى الله عليه وآله) ومعادن حكمه.
وعلى كلا المنهجين لابد للمسلمين من مرجع في الأُمور المستجدة، فالمرجع عند الشيعة هم أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، والمرجع عند غيرهم هم الفقهاء الذين يستنبطونها من تلك القواعد.
فيظهر حينئذٍ شططُ من يحاول أن يحصر ويَقْصُر إدارة أمور المسلمين من جميع النواحي -لا سيما الشرعية- باتباع النبي(عليه السلام) لا غير.
أما من هو الذي يُرْجَعُ إليه بعد النبي(صلى الله عليه وآله)؟
فجوابه: رجعت جميع فرق العامة من المسلمين إلى الفقهاء الذين يستنبطون الأحكام من القرآن والسنة والقواعد التي استحدثوها، فإن كان اتّباع الفقهاء حسناً فليكن اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) حسناً، بل هو أولى وأحسن.
مجلة اليقين العدد (36)