روايات الارتداد والرجوع على الأعقاب

وردت روايات مستفيضة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكَّد فيها أنّ النكوص والانقلاب على الأعقاب واقع بعده من قبل الصحابة.

قال (صلى الله عليه وآله): «أنا فرطكم على الحوض، وسأنازع رجالاً فأغلب عليهم، فلأقولنَّ ربِّ أُصيحابي أُصيحابي! فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك»[1].

والرواية واضحة الدلالة في أنّ هؤلاء الأصحاب كانوا معروفين في الناس بالاستقامة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكنّهم انحرفوا من بعده.

وفي رواية أخرى أنّه (صلى الله عليه وآله) قال: «ليردنَّ على الحوض رجال ممّا صحبني ورآني، حتّى إذا رفعوا إليَّ ورأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولنَّ: ربِّ أصحابي أصحابي! فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك»[2].

وقال (صلى الله عليه وآله): «إنّكم محشورون إلى الله تعالى... ثمّ يؤخذ بقوم منكم ذات الشمال، فأقول: يا ربِّ أصحابي! فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم مذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ)»[3].

والعذاب المذكور في الآية قرينة على ارتكاب الذنب والاتّصاف بالفسق والخروج عن العدالة والاستقامة، وإلّا لا موجب لعذاب العادل النزيه.

ومن خلال تتبّع الروايات نجد أنَّ الانحراف عن نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) والابتعاد عن المفاهيم والقيم الإسلاميّة المعبّر عنه بالارتداد والرجوع على الأعقاب والتقهقر، قد عمّ عدداً كبيراً من الصحابة الذين صحبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) صحبة ليست بالقصيرة، وقد عبّر (صلى الله عليه وآله) عن كثرتهم بالقول: «بينا أنا قائم إذا زمرة، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هَلُمَّ، فقلت: أين ؟ قال: إلى النار والله، قلتُ: وما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثمّ إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم ... قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم»[4].   

والروايات المتقدّمة تنصّ على أنّ المتسائل هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمجيب غيره، وهنالك روايات تنصّ على أنّ المجيب هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرة حيثُ يخاطب بعض أصحابه في يوم القيامة بإثبات انحرافهم عن الاستقامة بعد رحيله من الدنيا، كما هو في الرواية عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «ما بال أقوام يقولون: إنّ رحمي لا ينفع، بلى والله إنّ رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإنّي أيُّها الناس فرطكم على الحوض، فإذا جئت قام رجال، فقال هذا: يا رسول الله، أنا فلان، وقال هذا: يا رسول الله أنا فلان، وقال هذا: يا رسول الله أنا فلان، فأقول قد عرفتكم ولكنكم أحدثتم بعدي ورجعتم القهقري»[5].

وتنصّ الروايات على أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتبرّء منهم ولا يتدخل في إنقاذهم ممّا هم فيه عند ورودهم الحوض، ففي رواية يقول (صلى الله عليه وآله): «.. فأقول أصحابي أصحابي! فقيل: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بعداً بعداً ... ـ أو ـ سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي»[6].

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحذّر من الإنحراف بعد رحيله، ويجعل ملاك التقييم هو حسن أو سوء العاقبة، ففي رواية أنّه (صلى الله عليه وآله) قال لشهداء أُحد: «هؤلاء أشهد عليهم فقال أبو بكر: ألسنا يا رسول الله بإخوانهم؟ أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا، فقال (صلى الله عليه وآله): بلى، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي»[7].  وقد أكدّ بعض الصحابة حقيقة الإنحراف عن نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد رحيله، ومن ذلك قول أُبي بن كعب: (ما زالت هذه الاُمّة مكبوبةً على وجهها منذ فقدوا نبيّهم)[8].

وقوله: ألا هلك أهل العقدة، والله ما آسى عليهم، إنّما آسى على من يُضلّون من الناس[9].

مجلة اليقين العدد (13)

 


[1]  مسند أحمد ٢: ٣٥، وبنحوه في صحيح مسلم ٤: ١٨٠.

[2] مسند أحمد ٦: ٣٣، وبنحوه في صحيح البخاري ٨: ١٤٨ و٩: ٥٨.

[3] مسند أحمد ١: ٣٨٩، وبنحوه في: صحيح البخاري ٦: ٦٩ ـ ٧٠، ١٢٢، والآية من سورة المائدة ٥: ١١٧ ـ ١١٨.

[4] صحيح البخاري ٨: ١٥١.

[5] المستدرك على الصحيحين ٤: ٧٤ ـ ٧٥.

[6] مسند أحمد ٣: ٤١٠، وبنحوه في صحيح مسلم ٤: ١٧٩٣.

[7] موطأ مالك ٢: ٤٦٢ دار احياء التراث العربي ـ بيروت ١٣٧٠هـ.

[8] شرح نهج البلاغة ٢٠: ٢٤.

[9] شرح نهج البلاغة ٢٠: ٢٤.