بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الخلق وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم من الأولين والآخرين.
كثيرةٌ هي النعم الإلهية، والهبات الربانية التي غمس بها الإنسان، بل الوجود الإمكاني عموماً، ولو لم يكن هنالك نعماء تحصى، وآلاء تعد إلا نعمة الوجود، لكفى بها نعمة، وأي نعمة تضاهي نعمة التشرف بالوجود بعد العدم، تلك النعمة التي خرج بها عالم الإمكان من ظلمات العدم إلى نور التحقق والوجود، تلك النعمة التي بينها لنا إمامنا الحسين(عليه السلام) في دعاء عرفة تفصيلاً، جاء في بعض مقاطع الدعاء: «فَابْتَدَعْتَ خَلْقِي مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ أَسْكَنْتَنِي فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، بَيْنَ لَحْمٍ، وَجِلْدٍ، وَدَمٍ، وَلَمْ تُشَهِّرْنِي بِخَلْقِي، وَلَمْ تَجْعَلْ إِلَيَّ شَيْئاً مِنْ أَمْرِي، ثُمَّ أَخْرَجْتَنِي إِلَى الدُّنْيَا تَامّاً سَوِيّاً»[1].
ثمَّ ان الله تعالى بعد خلقه لنا، لم يرض لنا بنعمة دون أخرى، حتى منَّ علينا بأعظم وأفضل النعم على الإطلاق، ألا وهي نعمة الهداية والولاية له جل شأنه، (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)[2]، ونعمة الولاية لرسوله(صلى الله عليه وآله)، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ)[3]، ونعمة الولاية لأهل البيت(عليهم السلام)، وهو القائل وقوله الحق: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)[4]، وهذا الثلاثي من النعم العظام بمجموعه يشكل الأس المتين في بناء الإسلام، وبناء الإيمان، وعلى أساسه يقاس المؤمن من غيره، وقبول العمل من عدمه، وهذا واضح بدلالة الآيات المتقدمة، لكننا لو رجعنا مرة أخرى إلى الكتاب العزيز، ودققنا النظر، لوجدنا أن النعمة الثالثة هي أس الأساس في النعمتين المتقدمتين، وهي الميزان في قبولهما من عدمه، وهذا ما نطق به التنزيل: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[5]، وأما ما جاء في السنة فقد أخرج الخوارزمي عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال لعلي: «يا عَلِيُّ، لَو أنَّ عَبداً عَبَدَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ مِثلَ ما قامَ نوحٌ في قَومِهِ، وكانَ لَهُ مِثلُ أُحُدٍ ذَهَباً، فَأَنفَقَهُ في سَبيلِ اللهِ، ومُدَّ في عُمرِهِ حَتّى حجّ ألفَ عامٍ عَلى قَدَمَيهِ، ثُمَّ قُتِلَ بَينَ الصَّفا وَالمَروَةِ مَظلوماً، ثُمَّ لَم يُوالِكَ يا عَلِيُّ، لَم يَشَمَّ رائِحَةَ الجَنَّةِ، ولَم يَدْخُلْهَا»[6]، من هنا نعرف حجم تلك النعمة العظيمة على هذه الأمة التي جهلتها ولم تشكرها، تلك النعمة التي ستؤتي أكلها بعد حين، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أَلَا وفِي غَدٍ، وسَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ ... تُخْرِجُ لَه الأَرْضُ أَفَالِيذَ كَبِدِهَا، وتُلْقِي إِلَيْه سِلْماً مَقَالِيدَهَا، فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّيرَةِ، ويُحْيِي مَيِّتَ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ»[7].
مجلة اليقين العدد (32)