قال الله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ)[1].
كلمة الأرض تطلق على مجموع الكرة الأرضية، وتشمل كافة أنحاء العالم إلا أن تكون هناك قرينة خاصة في الأمر.
ولفظ الإرث يعني انتقال الشيء إلى شخص بدون معاملة وأخذ وعطاء، وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن أحياناً بمعنى تسلّط وانتصار قومٍ صالحين على قومٍ طالحين، والسيطرة على مواهبهم وإمكانياتهم، كما نقرأ في الآية (37) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا).
الزبور في الأصل يعني كل كتاب ومقال، والمراد به هنا زبور داود (عليه السلام) - أو بتعبير كتب العهد القديم (مزامير داود)، وهو عبارة عن مجموعة أدعية النبي داود ومناجاته ونصائحه ومواعظه.
والذكر في الأصل يعني التذكير أو ما يسبب التذكير والتذكّر، واستعملت هذه الكلمة في القرآن بهذا المعنى، وأطلقت أحيانا على كتاب موسى(عليه السلام) السماوي، كالآية (48) من سورة النساء: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ)، واستعملت أحيانا في شأن القرآن، كالآية (27) من سورة التكوير: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)، لكن ملاحظة التعبيرات التي استعملت في الآية توضح أن المراد من الذكر بمعنى التوراة، ومع ملاحظة أن الزبور كان بعد التوراة، فإن قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ) تعبيرٌ حقيقيٌ، وعلى هذا فإن معنى الآية: إننا كتبنا في الزبور بعد التوراة أننا سَنُورِّث العبادَ الصالحين الأرض.
وهنا ينقدح سؤال، وهو: لماذا ذكر هذان الكتابان من بين الكتب السماوية؟
ربما كان هذا التعبير بسبب أن داود (عليه السلام) كان أحد أكبر الأنبياء، واستطاع أن يشكل حكومة الحق والعدل، وكان بنو إسرائيل مصداقاً واضحاً للقوم المستضعفين الذين ثاروا بوجه المستكبرين، ودمّروا دولتهم، واستولوا على حكومتهم، وورثوا أرضهم.
والسؤال الآخر الذي يثار هنا هو: من هم عباد الله الصالحون؟
إذا لاحظنا إضافة العباد إلى الله ستتضح مسألة إيمان هؤلاء وتوحيدهم، وبملاحظة كلمة الصالحين التي لها معنى واسع، فستخطر على الذهن كل المؤهلات من ناحية التقوى، والعلم، والوعي، ومن جهة القدرة والقوة، ومن جانب التدبير والتنظيم والإدراك الاجتماعي.
عندما يهيئ العباد المؤمنون هذه المؤهلات والأرضيات لأنفسهم، فإن الله سبحانه يساعدهم ويعينهم ليمرّغوا أنوف المستكبرين في التراب، ويقطعو أيديهم الملوثة، فلا يحكمون أرضهم بعد، بل تكون للمستضعفين، فيرثونها، فبناء على ذلك فإن مجرد كونهم مستضعفين لا يدل على الانتصار على الأعداء وحكم الأرض، بل إن الإيمان لازم من جهة، واكتساب المؤهلات من جهة أخرى، وما دام مستضعفوا الأرض لم يحيوا هذين الأصلين فسوف لا يصِلُون إلى وراثة الأرض وحكمها، ولذلك فإن الآية التالية تقول من باب التأيد المشدد: (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ)[2].
لذلك ذكر بعض المفسرين: أن قوله تعالى: (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ)، إشارة إلى أن الأرض يرثها العباد الصالحون، ولو بعد حين، والمراد بالعابدين هنا الذين يتعظون بالعِبَر، وينتفعون بالنُذُر[3].
روايات حول ثورة الإمام المهدي (عليه السلام):
لقد فُسِّرت هذه الآية في بعض الروايات بأصحاب المهدي (عليه السلام)، كما نرى رواية في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) في ذيل هذه الآية: (هم أصحاب المهدي في آخر الزمان) مجمع البيان: ج 7، ص67.
وجاء في تفسير القمي في ذيل هذه الآية: إن الأرض يرثها عبادي الصالحون قال: (القائم وأصحابه)[4].
لا يخفى أن معنى هذه الروايات ليس الحصر، بل هو بيان مصداق عال وواضح، وقلنا مراراً: إن هذه التفاسير لا تحد من عمومية مفهوم الآية مطلقاً، وبناء على هذا ففي كل زمان، وفي أي مكان ينهض فيه عباد الله الصالحون بوجه الظلم والفساد فإنهم سينتصرون عاقبةَ الأمر، وسيكونون ورثة الأرض وحاكميها.
وإضافة إلى الروايات الواردة آنفاً في تفسير هذه الآية، فقد رويت روايات كثيرة جداً (بلغت حدَّ التواتر) عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وعن طريق السنة والشيعة، في شأن المهدي (عليه السلام)، وكلها تدل على أن حكم الأرض سيقع في أيدي الصالحين، وأن رجلاً من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) يقوم فيملأ الأرض قسطاً وعدلَّا كما ملئت ظلماً وجوراً.
ومن جملة الروايات: الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله)، والذي نقلته أكثر المصادر الإسلامية: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلاً مني يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)[5].
وقد ورد هذا الحديث بهذا التعبير مع اختلاف يسير في كثير من كتب الشيعة وأهل السنة[6].
مجلة بيوت المتقين العدد (63)