الهروب من المسؤولية

  قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)[1].

انتشر مرض الطاعون في إحدى مدن الشام، وأخذ يحصد الناس بسرعة عجيبة، فهجر المدينةَ جمعٌ من الناس أملاً في النجاة من مخالب الموت، وإذ نجوا من الموت فعلا بهروبهم من ذلك الجو الموبوء، شعروا في أنفسهم بشيء من القدرةوالاستقلالية، وحسبوا أن نجاتهم مدينة لعوامل طبيعية غافلين عن إرادة الله ومشيئته، فأماتهم الله في تلك الصحراء بالمرض نفسه.

قيل: إن نزول المرض بأهل هذه المدينة كان عقاباً لهم، لأن زعيمهم وقائدهم طلب منهم أن يستعدوا للحرب وأن يخرجوا من المدينة، ولكنهم رفضوا الخروج للحرب بحجة أن مرض الطاعون متفشي في ميادينها، فابتلاهم الله بما كانوايخشونه ويفرّون منه، فانتشر بينهم مرض الطاعون، فهجروا بيوتهم وهربوا من المرض إلى خارج المدينة حيث أنشب المرض مخالبه فيهم وماتوا، ومضى زمان على هذا حتى مرَّ يوماً حزقيل(عليه السلام) (في بعض الروايات أن حزقيل هو النبي الثالث بعد موسى (عليهما السلام) في بني إسرائيل) بذلك المكان ودعا الله أن يحييهم، فاستجاب الله دعاءه وأحياهم.

كيف ماتوا وكيف عادوا إلى الحياة؟!

هذه الآية كما مر في سبب نزولها تشير إشارة عابرة ولكنها معبرة إلى قصة أحد الأقوام السالفة التي انتشر بين أفرادها مرض خطير وموحش بحيث هرب الآلاف منهم من ذلك المكان فتقول الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ).

من الأساليب الشائعة في الأدب العربي استعمال تعبير ألم تر فيما يطلب إلفات النظر إليه، وقد ذكر السيد الطباطبائي (قدس سره)[2]، أن الرؤية ههنا بمعنى العلم، عبر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعد فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى: (ألم تر ان الله خلق السماوات والأرض بالحق)[3]، وقال الزمخشري ان لفظ (ألم تر) جري مجرى المثل، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا: ألم تر كذا وكذا معناه إلا تعجب لكذا وكذا.

وبالرغم من أن المخاطب هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّ الكلام موجّه بطبيعة الحال إلى جميع الناس.

ورغم أن الآية أعلاه لا تشير إلى عدد خاص واكتفت بكلمة ألوف، ولكن الوارد في الروايات أن عددهم كان عشرة آلاف، وذكرت روايات أخرى أنهم كانوا سبعين ألف أو ثمانين ألف[4].

ثم أن الآية أشارت إلى عاقبتهم فقالت: (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) لتكون قصة موتهم وحياتهم مرة أخرى عبرة للآخرين، ومن الواضح أن المراد من موتوا ليس هو الأمر اللفظي بل هو أمر الله التكويني الحاكم على كل حيّ فيعالم الوجود، أي: أن الله تعالى أوجد أسباب هلاكهم فماتوا جميعاً في وقت قصير، وهذه أشبه بالأمر الذي أورد في الآية (82) من سورة يس: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وإنما عبر بالأمر، دون أن يقال: فأماتهم الله ثم أحياهم ليكون أدلّ على نفوذ القدرة وغلبة الأمر[5].

وجملة (ثم أحياهم) إشارة إلى عودتهم إلى الحياة بعد موتهم استجابة لدعاء (حزقيل النبي) كما ذكرنا في سبب نزول الآية، ولما كانت عودتهم إلى الحياة مرة أخرى من النعم الإلهية البينة (نعمة لهم ونعمة لبقية الناس للعبرة) ففي ختام الآية تقول (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) فليست نعمة الله وألطافه وعنايته تنحصر بهؤلاء، بل لجميع الناس.

درس للعبرة:

هدف الآية في الواقع كما ورد في سبب النزول هو إشارة إلى جماعة من بني إسرائيل الذين كانوا يتذرعون تهرباً من الجهاد بمختلف المعاذير، فابتلاهم الله بمرض الطاعون حيث فتك بهم سريعا وأفناهم وأبادهم إلى درجة أنه لا يستطيعأي عدو شرس أن يصنع ذلك في ميدان القتال، فبهذا تقول الآية لهم أنه لا تتصوروا أن التهرب من المسؤولية والتوسل بالأعذار الواهية يجعلكم في مأمن من الخطر، فأنتم أعجز من أن تقفوا أمام قدرة الله تعالى، فإنه تعالى قادر على أن يبتليكم بعدو صغير لا يرى بالعين وهو مكروب الطاعون أو الوباء وأمثال ذلك فيختطف أرواحكم فيذركم كعصف مأكول.

مسألة الرجعة:

النقطة الأخرى التي لابد من الالتفات إليها هنا هي مسألة إمكان الرجعة التي تستفاد من الآية بوضوح.

وتوضيح ذلك: أن التاريخ يحدثنا عن بعض الأقوام من السالفين ماتوا ثم أعيدوا إلى هذه الدنيا، كما في حادثة طائفة من بني إسرائيل الذين توجهوا مع النبي موسى (عليه السلام) إلى جبل طور الواردة في آية 55 و56 من سورة البقرة (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقصة (عزير) أو إرميا الواردة في الآية (259) من هذه السورة: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )، وكذلك الحادثة المذكورة في هذه الآية مورد البحث.

فلا مانع أن تتكرر هذه الحادثة مرة أخرى في المستقبل.

استدلالشيخ الصدوق (رحمه الله) بهذه الآية على القول بالرجعة، وقال: (إن من معتقداتنا الرجعة) أي رجوع طائفة من الناس الذين ماتوا في الأزمنة الغابرة إلى هذه الدنيا مرة أخرى، ويمكن كذلك أن تكون هذه الآية دليلا على المعاد وإحياء الموتى يوم القيامة[6].

 

 

[1] البقرة:243.

[2] في تفسير الميزان: ج2، ص279.

[3] إبراهيم: 19.

[4] راجع التفاسير: مجمع البيان، القرطبي، روح البيان، في ذيل الآية المبحوثة.

[5] تفسير الميزان: ج2، ص279.

[6] تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج2، ص204- 209 بتصرف.