وانَّ المتأمل في كتب القوم يجد بوضوح أن فيها إما قلباً للحقائق، وحذفاً لكلمات بل لعبارات كاملة من الروايات والحوادث وتبديلها، أو تدليساً[1]، وتقطيعاً للأحاديث وتبديلها بكلمات وعبارات تتماشى مع أذواقهم، وتحفظ كرامة الأشخاص المقدسين عندهم، أو حذف عبارات فيها بيان لحقيقة ما أو فضيلة لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد صرح بهذا الشيء كبار علمائهم وطعنوا في رواة الأحاديث التي أخرجها واعتمد عليها أصحاب الصحاح، فمثلا يذكر كل من الذهبي - وهو من علمائهم الكبار - وابن عساكر، وابن كثير، عن شعبة بن الحجاج أنه قال: ممن اشتهر بالتدليس أبو هريرة، وقد اعتمد عليه البخاري أكثر من جميع الصحابة[2].
إذن هناك جملة من المؤاخذات على هذه الكتب وخصوصاً البخاري (المتوفى سنة 256هـ) فهو يروي ويعتمد على ضعاف الإيمان والخوارج والنواصب، كما أنه تتحكم في كتبه الطائفية والعصبية في العقيدة، فمن أمثلة ذلك تدليس البخاري في عدة من الأحاديث منها ما رواه في باب الاشربة: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عبد الملك بن ميسرة سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي (عليه السلام) انه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ثم أتى بماء فشرب وغَسَل وجهه ويديه وذَكَرَ رأسه ورجليه ثم قام فشرب فضله وهو قائم ثم قال إن ناسا يكرهون الشرب قائما وإن النبي (صلى الله عليه وآله) صنع مثل ما صنعت[3].
فلاحظ قول البخاري (وذَكَر رأسه ورجليه) ولم يصرح بأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد مسح على رأسه ورجليه، لأنه مخالف لمذهبه، وهذا هو التعصب المذهبي المقيت، كما أنه تلاعبٌ وخيانةٌ لأمانة النقل عند المحدثين، فهذا قول البخاري، ولكن هناك من المصادر ما يكشف تلاعب البخاري، وهي من كتب العامة أنفسهم، فلو تتبعنا هذه الرواية نجد أن ما أخفاه البخاري ذكره سليمان بن داود الطيالسي - وهو من علمائهم الكبار (المتوفى سنة 204هـ) - في كتابه مسند أبي داود الطيالسي حيث قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت النزال بن سبرة يقول صلى علي (عليه السلام) الظهر في الرحبة ثم جلس في حوائج الناس حتى حضرت العصر ثم أتى بكوز من ماء فصب منه كفا فغسل وجهه ويديه ومسح على رأسه ورجليه ثم قام فشرب فضل الماء وهو قائم وقال: إن ناسا يكرهون أن يشربوا وهم قيام ورأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فعل الذي فعلت وقال: هذا وضوء من لم يحدث[4].
وهناك نماذج كثيرة لتدليس البخاري منها قضية عمر بن الخطاب ونهيه عن الصلاة بحضور عمار بن ياسر[5]، وقضية عثمان وأسامة بن زيد[6]، ورجم الزانية[7]، وغيرها لم نتناولها خوف الإطالة.
وهذا التزوير والتزييف وقلب الحقائق قد طال حادثة غصب فدك من قبل غاصبي الخلافة، فحاولوا جاهدين إخفاء الحقائق والتخفيف من حجم الجريمة والأعمال الشنيعة التي ارتكبها القوم، فحذفوا مطالبة الزهراء (عليها السلام) بفدك كنحلة وملك لها خاص من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبما أنهم لا يستطيعون إخفائها كاملاً، لذا قالوا إن الزهراء (عليها السلام) خرجت للمطالبة بإرثها من النبي (صلى الله عليه وآله)، لكن الحقيقة إن الزهراء (عليها السلام) خرجت مطالبة بنحلتها وملكها فدك وأقامت على ذلك شهوداً، حسبما طلب منها الغاصبون، وهم يذكرون ذلك في كتبهم، لكن (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[8]. كما ذكر كبار مفسريهم أن فدكا ملك للزهراء (عليها السلام) وذلك في تفسير الآية: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)[9] أن النبي (صلى الله عليه وآله) دعا فاطمة (عليها السلام) ونحلها فدكاً.
فانظر إلى البخاري كيف يروي هذه الحادثة في كتابه حيث روى: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن فاطمة (عليها السلام) بنت النبي (صلى الله عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: لا نورّث ما تركنا صدقة...[10].
فهو هنا لم يتطرق لمطالبة الزهراء (عليها السلام) بفدك على أنها نحلة من النبي (صلى الله عليه وآله)، وهي تحت تصرف الزهراء (عليها السلام) في حياته (صلى الله عليه وآله) إلى عشرة أيام بعد وفاته، وأنّ هناك وكيلاً منصوباً من قبلها (عليها السلام) بمرأى ومسمع من النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمين آنذاك، بل تجد أنه عرض المسألة على أنها حادثة عادية جرت بين متخاصمين، والزهراء أرسلت إلى أبي بكر تسأله! وانتهى الأمر، فتراه قطّع الحديث وتلاعب في مجريات الحادثة مما أدى إلى تضييع الحقيقية وتغيير المعنى، فإذا كان الأمر كما يزعُم فلماذا طُلب منها (عليها السلام) أن تأتي بالشهود لإثبات ملكيتها لفدك، وما أخفاه أظهره غيره وفضح تلاعبه بالنصوص وتحريف الكلم عن مواضعه، فهذا الجوهري - وهو من كبار علمائهم- يذكر في كتابه (السقيفة وفدك) ما نصه: (... فأتته فاطمة - إي إلى أبي بكر- فقالت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطاني فدكا، فقال لها: هل لك على هذا بينة؟ فجاءت بعلي (عليه السلام) فشهد لها، ثم جاءت أم أيمن فقالت: ألستما تشهدان - الخطاب موجه إلى أبي بكر وعمر- أني من أهل الجنة، قالا: بلى، قال أبو زيد: يعني إنها قالت لأبي بكر وعمر: فأنا أشهد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطاها فدكا، فقال أبو بكر: فرجل آخر وامرأة أخرى لتستحقي بها القضية...!).[11]
ونسج على منوال البخاري مسلم النيسابوري (المتوفى سنة 261هـ)، حيث روى: حدثني محمد بن رافع أخبرنا حجين حدثنا ليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها أخبرته: (أن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرسلت إلى أبى بكر تسأله ميراثها من رسول الله(صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر)[12] .
[1] التدليس: وهو إخفاء العيوب في الحديث سنداً أو متنا.
[2] سِيَر أعلام النبلاء: ج2، ص608، تاريخ ابن عساكر: ج67، ص359، البداية والنهاية: ج8، ص77.
[3] صحيح البخاري: ج6، ص248.
[4] مسند أبي داود الطيالسي: ص21.
[5] صحيح البخاري: ج1، باب التيمم.
[6] نفس المصدر: ج4، كتاب بدء الخلق ص90.
[7] نفس المصدر: ج8 كتاب المحاربين... باب لا يرجم المجنون.
[8] سورة التوبة: آية 33.
[9] سورة الإسراء: آية 26.
[10] صحيح البخاري: ج5، باب غزوة خيبر.
[11] السقيفة وفدك: ص110.
[12] صحيح مسلم: ج5، ص153.