بسم الله الرحمن الرحيم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ)[1]
اهتم القرآن المجيد ببناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير الأخلاقية وبيّنت النصوص الدينية الكثير من هذه المعايير، وفي مقابل ذلك بيّنت بعض النصوص الأمور التي توجب هدم البناء الاجتماعي والتي منها السخرية والاستهزاء: (وهو ذكر ما يستحقر ويستهان به الإنسان بقول أو إشارة أو فعل تقليدا بحيث يضحك منه بالطبع)، والخطاب في هذه الآية موجه إلى المؤمنين كافة فهو يعم الرجال والنساء وينذر الجميع أن يجتنبوا هذا الخلق القبيح، لأن أساس السخرية والاستهزاء هو الإحساس بالاستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك، أو العداوة، أو إرادة إضحاك الآخرين والتسلية، أو مرافقة أهل السوء ومجاملتهم، والاستعلاء أو التكبر غالبا ما يكون أساسه القيم المادية والظواهر المادية فمثلا: فلان يرى نفسه أكثر مالا من الآخر أو يرى نفسه أجمل من غيره أو أنه يعد من القبيلة المشهورة والمعروفة أكثر من سواها، وربما يسوقه تصوره بأنه أفضل من الجماعة الفلانية علما وعبادة ومعنوية إلى السخرية منهم، في حين أن المعيار الواقعي عند الله هو (التقوى) التي تنسجم مع طهارة القلب وخلوص النية والتواضع والأخلاق والأدب!.
ولا يصح لأي أحد أن يقول أنا أفضل عند الله من سواي، ولذلك عد تحقير الآخرين والتعالي بالنفس من أسوأ الأمور وأقبح العيوب الأخلاقية التي يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية في حياة الناس جميعا.
سبب النزول:
ذكر المفسرون لهذه الآية شأنا في نزولها بل شؤونا مختلفة، منها أن جملة: (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) نزلت في -ثابت بن قيس - الذي كان ثقيل السمع وكان حين يدخل المسجد يجلس إلى جنب النبي((صلى الله عليه وآله))ويُوفّر له المكان عنده ليسمع حديث النبي(صلى الله عليه وآله)، وذات مرة دخل المسجد والمسلمون كانوا قد فرغوا من صلاتهم وجلسوا في أماكنهم، فكان يشق الجموع ويقول: تفسّحوا، تفسّحوا، حتى وصل إلى رجل من المسلمين فقال له: أصبت مجلسا فاجلس: أي اجلس (مكانك هنا)فجلس خلفه مغضبا فلمّا انجلت الظلمة فقال ثابت لذلك الرجل: من أنت فقال الرجل: أنا فلان، فقال ثابت: بل أنت ابن فلانة؟ ! وذكر اسم أمه بما يكره من لقبها.. وكانت تعرف به في زمان الجاهلية فاستحيى ذلك الرجل وطأطأ برأسه إلى الأرض، فنزلت الآية ونهت المسلمين عن مثل هذا العمل..
وقيل إن جملة: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) نزلت في أم سلمة إحدى أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) لأنها كانت تلبس لبوسا خاصا أو لأنها كانت قصيرة فكان بعض النساء يسخرن منها، فنزلت الآية ونهت عن مثل هذه الأعمال[2].
التفسير:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) أي: بعض المؤمنين من بعض، والقوم مختصّ بالرجال، لأنّهم القوّام بأمور النساء، كما قال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)[3]، وكقول زهير: أقوم آل حصن أم نساء. وأمّا قولهم: قوم عاد وقوم فرعون، فإمّا على التغليب، أو لوجه آخر، واختيار صيغة الجمع في القوم لأنّ السخريّة تغلب في المجامع.
ثمّ ذكرت الآية العلَّة الموجبة للنهي عن الاستهزاء، فقالت: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) أي يجب أن يعتقد كلّ أحد أنّ المسخور منه ربّما يكون عند الله خيرا من الساخر، لأنّ الناس لا يطَّلعون إلَّا على ظواهر الأحوال، ولا علم لهم بالخفيّات. وإنّما الَّذي له قيمة عند الله هو خلوص الضمائر وتقوى القلوب، ولا علم لهم بذلك، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تزدريه عينه، إذا رآه رثّ الحال، أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لبق في محادثته، فلعلَّه أخلص ضميرا وأتقى قلبا ممّن هو على ضدّ صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله، والاستهانة بمن عظَّمه الله تعالى.
قوله: (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) أي: ولا تسخر بعض المؤمنات من بعض (عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) وتنكير القوم والنساء يحتمل أن يراد: لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض، أو غير ذلك[4].
ومن سخر من الأبرياء فهو ظالم وسفيه، وقد هدده الله بأشد العقوبات، من ذلك قوله عز من قائل: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ ولَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)[5]، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) إلى (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ)) آخر المطففين، وقوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)[6].
كلمة نورانية:
وههنا حكمة بالغة للإمام زين العابدين (عليه السلام) تتصل بهذا الموضوع، وكأن الإمام يقصد بحكمته تفسير قوله تعالى: (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ). وهذه هي:
(إياك أن تتكلم بما سبق إلى القلب إنكاره وان كان عندك اعتذاره، فليس كل من تسمعه شرا يمكنك أن توسعه عذرا.. واجعل من هو أكبر منك بمنزلة الوالد، والصغير بمنزلة الولد، والترب بمنزلة الأخ، فأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره؟ وان عرض لك الشيطان ان لك فضلا على غيرك فانظر: ان كان أكبر منك فقل: قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وان كان أصغر منك فقل: قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني، وان كان تربك فقل: أنا على يقين من ذنبي وفي شك من أمره فما لي أدع يقيني لشكي، وان رأيت الناس يعظمونك فقل: هذا فضل أخذوا به، وان رأيت منهم جفاء فقل: هذا لذنب أحدثته، فإنك إن فعلت ذلك سهّل الله عليك عيشك وكثر أصدقاؤك وقلّ أعداؤك، وفرحت ببرّهم، ولم تأسف على جفاء من جفاك).
ومهما قال العلماء والحكماء في هذا الموضوع فلن يزيدوا شيئا عما انطوت عليه هذه الحكمة البالغة... ولا بدع فإن قائلها ابن الوحي، وخازن علمه، والمتأدب بأدبه.
علاج السخرية والاستهزاء:
ويتم علاج هذه الرذيلة بصورة عامة بالعلم والعمل، وبشكل تفصيلي
أما العلاج بالعلم:
1- أن يعلم أنه بالسخرية والاستهزاء بالمؤمن يتعرض لمعصية من الله تعالى وسخطه.
2- أن يعلم أنه كما لا يحب أن يَسخر به أحد من الناس، فكذلك الآخرون لا يُحبون أن يسخر بهم أحد.
3- أن يعلم الإنسان أنه في يوم من الأيام قد يصاب بنقص في شيء متعلق بجسده أو أهله أو ماله –الدنيا دار بلاء- فكما لا يقبل بسخرية الآخرين منه فلا يسخر من غيره.
4- أن يعلم الإنسان أنه مهما بلغ من كمال الخلقة والمكانة فهناك من هو أحسن منه خلقة ومكانة وأفضل منه وقد يسلط الله عليه فيسخر منه.
هـ/ أن يعلم أنه قد يسخر ويستهزأ بولي من أولياء الله تعالى وهو لا يعلم.
وأما العلاج بالعمل:
1- المراقبة التامة للنفس ومحاسبتها.
2- معاهدة النفس بعدم السخرية والاستهزاء بالآخرين.
3- التفكير في الكلام قبل التلفظ به فإن كان خيراً وإلا فليصمت.
واما العلاج التفصيلي:
فيكون بالنظر إلى السبب الباعث له على السخرية والاستهزاء، والتي منها الإحساس بالاستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك، أو العداوة، أو إرادة إضحاك الآخرين والتسلية، أو مرافقة أهل السوء ومجاملتهم، وعلاج هذه الأسباب.
مجلة بيوت المتقين العدد (39)