لمّا وصل ركب السبايا إِلى الشام، أَمر يزيد بأَن يدخلوا عليه نكاية بهم، وشماتة بما جرى عليهم، وَلِيشفي حِقْدهُ على آلِ محمدٍ (صلواتُ اللهِ عليهم)، وليتفاخر بما صنع أَمام أَهل الشام، ولكن انقلب السِّحر على السَّاحر، فقد انبرى له الإِمام زين العابدين(عليه السلام) وعقيلة الطالبين زينب(عليها السلام) فخطبوا في مجلسه، وفضحوه أَمام الملأ، وينقل الكثير من المؤرخين والمحدثين خطبة زينب(عليها السلام) في مجلس يزيد، فيذكر السيد ابن طاووس وغيره أَن زينب بنت علي بن أَبي طالب(عليه السلام) في مجلس يزيد، وقد سَمِعَته يقرأُ أَبياتِ ابن الزِّبَعرى:
ليتَ أشياخي ببـدرٍ شَهِـدوا جَزَعَ الخزرجِ مِن وَقْعِ الأسَلْ
فأهَلَّـوا واستَهـلُّـوا فَرَحـاً ثمّ قالـوا: يا يزيـدُ لا تُشَلّْ!
لستُ مِن خِنْدَفَ إنْ لم أنتقـمْ مِن بني أحمدَ ما كان فَعَـلْ!
فقالت له زَيْنَب(عليها السلام) -في خطبة عصماء-: (الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ، صَدَقَ اللهُ سُبحانَه حَيثُ يَقُولُ: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون)، أمِنَ الْعَدْلِ يَا ابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَإِمَاءَكَ، وَ سَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ سَبَايَا؟ تَحْدو بِهن الأًعْدًاء مِنْ بَلدِ إِلى بَلدْ، وَيَسْتَشرِفهُن أهْلُ المَناهِلِ والمَناقِل، ويَتَصفحُ وُجُوهَهن القَريبُ والبَعيدُ الدَنيء والشَرِيفْ، لَيْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالِهِنَّ وَلِيٌّ، وَلَا مِنْ حُمَاتِهِنَّ حَمِيٌّ، وَكَيْفَ يُرْتَجَى مُرَاقَبَةُ مَنْ لَفَظَ فُوه أَكْبَادِ الْأَزْكِيَاءِ، وَنَبَتَ لَحْمُهُ بِدِمَاءِ الشُّهَدَاءِ؟ وَكَيْفَ يَسْتَبْطِئُ فِي بُغْضِنَا أَهْل الْبَيْتِ مَنْ نَظَرَ إِلَيْنَا بِالشَّنَفِ وَالشَّنَآنِ وَالْإِحَنِ وَالْأَضْغَانِ؟ ثُمَّ تَقُولُ: غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ وَلَا مُسْتَعْظِمٍ:
وَأَهَلُّوا وَاسْتَهَلُّوا فَرَحاً ثُمَّ قَالُوا يَا يَزِيدُ لَا تُشَلُ
مُنْتَحِياً عَلَى ثَنَايَا أَبِي عَبْدِ اللهِ، سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، تَنْكُتُهَا بِمِخْصَرَتِكَ، مَا أَجْرَأَكَ عَلى الله، وَما أَقْبَحكْ، وَكَيْفَ لَا تَقُولُ ذَلِكَ، وَقَدْ نَكَأْتَ الْقَرْحَةَ، وَ اسْتَأْصَلْتَ الشَّأفَةَ، بِإِرَاقَتِكَ دِمَاءَ ذُرِّيَّةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، وَنُجُومِ الْأَرْضِ مِنْ آلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَتَهْتِفُ بِأَشْيَاخِكَ، زَعَمْتَ أَنَّكَ تُنَادِيهِمْ، فَلَتَرِدَنَّ وَشِيكاً مَوْرِدَهُمْ، وَلَتَوَدَّنَّ أَنَّكَ شَلَلْتَ وَبَكِمْتَ، وَلَمْ تَكُنْ قُلْتَ مَا قُلْتَ، وَ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ.
اللَّهُمَّ خُذْ بِحَقِّنَا وَ انْتَقِمْ مِمَنْ ظَلَمَنَا، وَأَحْلِلْ غَضَبَكَ بِمَنْ سَفَكَ دِمَاءَنَا، وَقَتَلَ حُمَاتَنَا.
(ثمّ توجّهت بالتوبيخ إِلى يزيد قائلةً له): فَوَاللهِ مَا فَرَيْتَ إِلَّا جِلْدَكَ، وَلَا جَزَزْتَ إِلَّا لَحْمَكَ، وَ لَتَرِدَنَّ عَلَى رَسُولِ اللهِ بِمَا تَحَمَّلْتَ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ ذُرِّيَّتِهِ، وَانْتَهَكْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ فِي عِتْرَتِهِ وَ لُحْمَتِهِ، حَيْثُ يَجْمَعُ اللهُ شَمْلَهُمْ، وَيَلُمُّ شَعَثَهُمْ، وَيَأْخُذُ بِحَقِّهِمْ، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، حَسْبُكَ بِاللهِ حَاكِماً، وَبِمُحَمَّدٍ خَصِيماً، وَبِجَبْرَئِيلَ ظَهِيراً، وَسَيَعْلَمُ مَنْ سَوَّلَ لَكَ، وَمَكَّنَكَ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ (أَي: معاوية لعنه الله)، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، وَأَيُّكُمْ شَرٌّ مَكاناً، وَأَضْعَفُ جُنْداً.
وَ لَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ الدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَكَ، إِنِّي لَأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ، وَ أَسْتَعْظِمُ تَقْرِيعَكَ، وَ أَسْتَكْثِرُ تَوْبِيخَكَ، لَكِنَّ الْعُيُونَ عَبْرَى، وَالصُّدُورَ حَرَّى.
(وهنا جاء التنبيه إلى عظم المصيبة والفاجعة التي أوقعها يزيد في آل بيت المصطفى): أَلَا فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اللهِ النُّجَبَاءِ بِحِزْبِ الشَّيْطَانِ الطُّلَقَاءِ؟ (ومنهم يزيد الطليق بعد فتح مكّة، ولم يسمح الشرع الشريف للطلقاء أن يتقلّدوا الحُكْم)، فَهَذِهِ الْأَيْدِي تَنْطِفُ مِنْ دِمَائِنَا، وَالْأَفْوَاهُ تَتَحَلَّبُ مِنْ لُحُومِنَا، وَتِلْكَ الْجُثَثُ الطَّوَاهِرُ الزَّوَاكِي تَنْتَابُهَا الْعَوَاسِلُ (الذئاب)، وَتَعْفُرهَا أُمَّهَاتُ الْفَرَاعِلِ، وَ لَئِنِ اتَّخَذْتَنَا مَغْنَماً لَتَجِدُنَا وَشِيكاً مَغْرَماً، حِينَ لَا تَجِدُ إِلَّا مَاقَدَّمْتَ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، فَإِلَى الله الْمُشْتَكَى، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ.
فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، وَنَاصِبْ جُهْدَكَ يَا يَزِيدْ، فَوَ اللهِ لَا تَمْحُو ذِكْرَنَا، وَلَا تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَ لَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا، وَلَا يَسْقُطْ عَنْكَ عَارُ مَافَعلتْ، وَهَلْ رَأْيُكَ إِلَّا فَنَدٌ، وَأَيَّامُكَ إِلَّا عَدَدٌ، وَمَاجَمْعُكَ إِلَّا بَدَدٌ، يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، فَالْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي خَتَمَ لِأَوَّلِنَا بِالسَّعَادَةِ، وَلِآخِرِنَا بِالشَّهَادَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُكْمِلَ لَهُمُ الثَّوَابَ، وَيُوجِبَ لَهُمُ الْمَزِيدَ، وَيُحْسِنَ عَلَيْنَا الْخِلَافَةَ، إِنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
فقال يزيد:
يا صيحةً تُحمَدُ مِن صَوائحِ ما أهونَ الموتَ علَى النوائحِ[1]
وجميل ما قالته الأَديبة بنت الشاطئ حول هذا الدور الزينبي، حيث كتبت تقول: (لم تمضِ زَيْنَب إِلا بعد أَن أَفسدت على ابن زياد، ويزيد، وبني أُمية، لذة النصر، وسكبت قطرات من السم الزعاف في كؤوس الظافرين! فكانت فرحة لم تطل، وكان نصراً مؤقتاً، لم يلبث أَن أَفضى إِلى هزيمة قضت، فلم تكد زَيْنَب تخرج من عند يزيد حتى أَحسَّ أَنّ سروره بمقتل الحسين(عليه السلام) قد شابه كدر خفي، ظل يزداد حتى استحال إِلى ندم، كَدّر صفو الأَعوام الثلاثة الأَخيرة من حياته) [2].
ويُعقّب المرحوم الفكيكي: (تأمّل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة، وأَساليب الفصاحة، وبراعة البيان، وبين معاني الحماسة، وقوة الاحتجاج، وحجّة المعارضة، والدفاع في سبيل الحرية والحقّ والعقيدة، بصراحة هي أَنفذ من السيوف إِلى أَعماق القلوب، وأَحدّ من وقع الأَسنّة في الحشا، والمهج في مواطن القتال، ومجالات النزال، وكان الوثوب على أَنياب الأَفاعي، وركوب أَطراف الرماح أَهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ، الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني أُمية، وفراعنتهم في منازل عزّهم ومجالس دولتهم الهرقلية والارستقراطية الكريهة، ثمّ إِنّ هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الأخلاقية الرفيعة السامية، وسيبقى هذا الأدب الحيّ صارخاً في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأَجيال، وفي كل ذكرى لواقعة الطفّ الدامية المفجعة)[3].